أخذتنا المِحَنُ يا صديقي؛ فنسينا الجمالَ والحبَّ والفنَّ. كبّلتنا خيوطُ السياسة الخشنة، وأحزانُ الوطن الطيب، وأوجاعُ أبنائه المطحونين، وحيودُ الثوراتِ عن سبيلها؛ فنسينا الخيطَ الحاني، الذي يخترقُ أعماقَنا فيُخرجُ منها "الهمجيَّ" الفظَّ، ليستبدلَ به المتحضِّرَ النبيل: الإنسان. الخيطُ الحاني Soft String، هو الفنون الجميلة: الموسيقى، التشكيل، النحت، الأوبرا، المسرح، الباليه، العمارة، الشِّعر، السينما، وغيرها مما يُميّز الإنسانَ عن سائر المخلوقات. لولا الفنون ما ارتقينا عن فصيل الحيوان، أو الهمجيّ الأول. الفنُّ يهذِّبُ الروحَ، ويسمو بالعقل. وإن سألني سائلٌ كيف نكتبُ عن الفنّ والجمال في زمن المِحن والأزمات؟ لن أجيبَه بمقولة أفلاطون في القرن الرابع قبل الميلاد: "علّموا أولادَكم الفنَّ، ثم أغلقوا السجون"، بل سأُحيله إلى عام 1937، حيث مقال العقّاد: "بل ضرورية جدًّا"، بمجلة "الرسالة"، حين سُئِل: "هل الفنونُ الجميلة من ضروراتِ الحياة، أم هي كمالياتٌ تأتي بعد لقمة العيش؟" فقال الأستاذ: "بوسعنا العيش دون مَلكة النظر سبعين عامًا دون أن نهلك، ولا نقدر أن نعيش سبعين يومًا دون الرغيف، ولم يقل أحدٌ لهذا إن الرغيفَ أهمُّ من البصر. وبتقييم السوق: الرغيفُ أرخصُ من الكتاب، والتمثالُ أغلَى من الثوب. فقيمةُ الشيء لا تتعلق بقدر الحاجة إليه، بل بقدر ما نصبح عليه إذا حصّلناه. فتحصيلُنا الرغيفَ يساوينا بسائر الأحياء، ولكن تحصيلَنا الجمالَ لا يجعلُنا أحياءَ وحسب، بل يجعلنا بشرًا ممتازين في أمّة ممتازة، تُحِسُّ وتُحسنُ التعبيرَ عن إحساسها. الضروراتُ توكلُنا بالأدنَى من مراتب الحياة، أما الذي يرفعنا إلى الأوج من طبقات الإنسان، فهو الفنون."
تصوروا أن بلدًا فقيرًا مثل فنزويلا بأمريكا اللاتينية، التي 67% من سكّانها تحت خط الفقر، احتلَّ مكانًا بموسوعة "جينيس" بوصفه الشعبَ الأكثرَ سعادة فى العالم! رأيتُ بعينى كيف يكدّون بالنهار، وبالليل يُقشّرون عنهم أوجاعَهم بالرقص: الميرينجى والسالسا والسامبا والرومبا! فهل هم يهربون من الحياة؟ أم يهربون إلى الحياة؟
مصرُ لم تتعافَ من جروحها، والمصريون مرتبكون بالفقر والتشرذم والتخبُّط. نعم. ولكن كل هذا لا يمنع أن نقرأ قطعةً طيبة من الموسيقى تُهذِّبُ روحَنا، أو نُنصتَ بعيوننا إلى إيقاع لوحة تشكيلية بديعة تُقشِّر عنّا الحَزَن.
لذلك فرحتُ حين خصّص لي العزيز "مجدي الجلاد" هذه الزاوية، لأهربَ فيها، معكم، من خشونة أعمدتي الأخرى المُثقلَة بهموم الوطن. هنا سأكتب عن حبيبي: "الفن". أما عنوان زاويتي: "غُصن"، فقد اخترتُه لأشبُكَ عليه كلَّ يوم ورقةَ شجر جديدة: لوحةً، قطعةَ موسيقى، أغنيةً، قصيدة، أوبرا، الخ. وربما أكتبُ عن عصفور جميل، قرَّر أن يحُطَّ على "غُصْني".