بدأت المهزلة بداية واقعية وانتهت نهاية عبثية..
الجارة الجديدة اليسارية «عنايات» تسأل «فوزية» زوجة الأسطى «بدار» الحلاق بدرب «المواردى» عن بنطلون بيجامة زوجها «عبدالواحد» الذى طار من منشر الغسيل، فنفت «فوزية» أنه وقع عندها فى البلكونة.. ثم تطور الحوار إلى مشادة أخذت تتصاعد حتى بلغت قمتها عندما قالت «عنايات» لـ«فوزية» على مسمع من الجيران:
- انتى باين عليكى ولية «برجوازية» ملعونة.
فصرخت «فوزية» وقد استشعرت الإهانة رغم عدم فهمها للعبارة:
- اخرسى قطع لسانك.. أنا أشرف منك ومن عيلتك..
إنه أول اشتباك عقائدى يحدث فى درب «المواردى» لكن الأزمة الكوميدية تتجسد فى «سوء التفاهم» فقد وقعت الحارة فى حيرة بالغة لتفسير كلمة «برجوازية».. إذ ذهبت جارة إلى أن الكلمة معناها «ست أراجوزية» أى «هزؤ»، واتجه تفسير ثانٍ أن معناها «حرامية»، وقالت ثالثة إنها كلمة قبيحة..
انتهى إجماع الآراء بضرورة أن يذهب الأسطى «بدار» إلى «عبدالواحد» اليسارى للتفاهم معه ووضع حد لخلافات النسوان، لكن الأسطى «بدار» لم يفهم كلمة واحدة من الكلام «النحوى» الذى انطلق «عبدالواحد» يقوله بانفعال، والذى أنهى اللقاء بغضب جامح مردداً وهو يصفع الباب فى وجهه:
- أنت يمينى رجعى متعفن..
يجد الأسطى «بدار» نفسه -رغم أنفه- طرفاً فى الحرب المشتعلة بين اليمين واليسار ووقف من «إبراهيم» الطالب الجامعى بالحى على حقيقة مهمة أنه إذا أراد أن يحرق دم «عبدالواحد» فلابد أن يستخدم أسلوب الحرب بين اليمين واليسار، وعليه أن يشايع اليمين لا حباً فى اليمين ولكن كراهية فى «معاوية» (عبدالواحد).. كخطوة أولى اقترح عليه أن يغير اسم الصالون من اسم «صالون الفردوس» إلى اسم آخر وليكن اسم «صالون اليمين الرجعى» أو «صالون الإمبريالية» أو صالون «الرأسمالية الاحتكارية» أو «صالون البيت الأبيض» ويغير الأسطى «بدار» فعلاً اسم الصالون إلى «صالون البيت الأبيض»..
تنتشر فى الحى شائعة أن الأسطى «بدار» يشاهَد يومياً وهو يتردد على السفارة الأمريكية بحجة حلاقة ذقن السفير، بينما هو ينقل أخبار درب «المواردى» لوكالة المخابرات المركزية.. وأن «موسكو» مهتمة بهذا الموضوع وتبحث عن منطقة نفوذ فى درب «المواردى» وتفوض «أبواليزيد» البقال فى أن يمثلها..
تشتعل الحرب بين «أبواليزيد» والأسطى «بدار»، و«أبواليزيد» يصفه بأعلى صوته أنه عميل إمبريالى خائن وبرجوازى رجعى معفن.. فى المقابل يدهن «أبواليزيد» محله باللون الأحمر ولافتة جديدة تعلو المحل مكتوب عليها «بقالة الكرملين»..
تكبر المسألة فى دماغ الأسطى «بدار» الذى يصبح -رغم أنفه- يقود الحرب ضد اليسار فى درب «الماوردى».. وبدأ يسأل كل زبون قبل أن يحلق له: إنت يمينى ولا يسارى؟!.. ولا يعطى حسنة لشحاذ إلا إذا سأله: إنت يمينى ولا يسارى؟..
ويصحو الحى ذات يوم على كتابات فوق الجدران تقول: «عبدالواحد ملحد وكافر.. عبدالواحد عدو الله»..
وفى المقابل كان «عبدالواحد» وراء كتابات أخرى تقول: «قاطعوا الحلاق الإمبريالى عميل المخابرات المركزية - الموت لفوزية البرجوازية التى تجهض كفاح الشعوب..».
تتصاعد الحرب بين أنصار اليمين وأنصار اليسار.. وتبدأ المعركة الكبرى بمستصغر الشرر حينما يصحو الناس على شتائم متبادلة بين «عمران» بائع السميط، و«أبوالوفا» بائع اللبن، هى: انت يمينى رجعى عميل - انت إمبريالى خائن - اخرس يا برجوازى يا كلب..
وتتصاعد ويتدخل أهل الحارة فى فوضى بالغة وعنف شديد يتبادلون الضرب والركل وتتطاير كراسى المقهى وهرج ومرج وصراع وواجهات محلات تدمر وحرائق تنشب..
هذه هى قصة أحمد رجب «فوزية البرجوازية» التى كتبتُ لها السيناريو والحوار، وجُسدت فى فيلم تليفزيونى عرض فى بداية الثمانينات.. والتى انتبه فيها الأسطى «بدار» إلى خطورة ما حدث فى النهاية وناشد الجميع فض المعركة، صائحاً بانفعال أنه «مصرى من تراب مصر وملعون الأمريكان على الروس سوا».
تذكرت الفيلم وأنا أتابع حالة التشرذم والانقسام والفُرقة والتناحر الطائفى والتمييز العنصرى والنفور العقائدى الذى يتأجج يوماً بعد يوم ويتصاعد ويكرس لازدراء الآخر.. ويرفع شعار «الجحيم هو الآخرون».. و«الطائفية فوق المواطنة».. والزحف المخيف نحو دولة دينية وهدم دعائم الدولة المدنية وفرض ثقافة الحلال والحرام.. وتدعيم أواصر رسالة الكراهية فى مواجهة رسالة حب تتلاشى وبغض يسود وقبح ينتشر وعنف يتفاقم وإرهاب يتنامى.. تبدأ المهزلة التى تفضى إلى عبث بتفتق ذهن المسئولين فى المؤسسة الدينية عن الاستجابة لدعوة إصلاح الخطاب الدينى بحل عبقرى قررته لجنة الفتوى بمجمع البحوث الإسلامية.. هو إقامة كشك للفتوى بمحطة المترو المحاصر فى داخله بداعشيات ينزعن شعور السيدات السافرات..
وبذلك تصبح الفتاوى الدينية فى شئون الحياة المختلفة منهجاً يومياً يطاردنا ويحاصرنا فى كل مكان وزمان.. ويصبغ حياتنا الاجتماعية ويشكل كل تفاصيلها وأبعادها وفى كل مناهجها وأغراضها ومجالاتها حتى فى السياسة والفكر والفن والطب والعلوم والفلك.. ومدى حرمانية التماثيل ونقل الأعضاء والاستنساخ والمشخصات فى اللوحات التشكيلية..
بينما نحن فى حاجة ماسة وملحة فى تلك الفترة الحرجة التى نعيشها أن نحصر ونقلص دور رجال الدين من المشايخ والكهنة فى المساجد والكنائس للسيطرة على ذلك الهوس الدينى المستشرى فى ربوع وطن يتراجع تراجعاً حضارياً مزرياً..
وبينما تسعى الأمم المتحضرة إلى إقامة أكشاك للموسيقى والكتب والفنون التشكيلية، نسعى نحن إلى العودة لكهوف ظلامية يطل منها علينا «ابن تيمية» و«ياسر برهامى»، وتتوالى الأسئلة الجوهرية: هل تعتبر المرأة نجسة فى فترة الحيض ولا يجوز لها الصوم والصلاة ولا يجوز لها أن تمس أو تحمل المصحف الشريف.. وهل يجوز أن تقلب صفحاته بيدها؟! فتكون الإجابة الشافية: لا لا بد من استخدام قلم ولا تمسكيه بيديك..
أما الارتباط بالمتبرجات فينبغى علينا ألا ننسى أن جسد المرأة كله عورة بخلاف الوجه والكفين..
وأما «مجدى يعقوب» فإنه من أهل النار لأنه قبطى.. ولا يجوز مصافحة الأقباط..
وكان من البديهى طالما أننا نكرس لدولة دينية.. وقد صار الانتماء الدينى أقوى من الانتماء الوطنى، وباتت المشكلات الاجتماعية والاقتصادية يحيلها الناس إلى المؤسسات الدينية وإلى أكشاك الفتوى، ويلتمسون من خلال رموزها من الفقهاء والكهنة.. ودعاة الفضائيات من الشيوخ والقساوسة الحل والعزاء والخلاص والرجاء والنصيحة والفتوى فى ظل مناخ عبثى وفوضوى، ما زالت قضية العدالة الاجتماعية لم تتحقق فيه بعد.. وكان من البديهى أن يعترض الأقباط على هذا التفرد الطائفى.. وطالبوا بالمساواة: كشك للفتوى والاعتراف.. يجلس داخله ثلاثة من القساوسة فى مقابل كشك الفتوى الذى يجلس بداخله ثلاثة من الشيوخ.. «الكرملين» فى مواجهة «البيت الأبيض» فى فيلم «فوزية البرجوازية» وتتوالى أسئلة الحيارى والمهلوسين وضحايا الطائفية البغيضة..
ذهبت إلى المستشفى لزيارة مريض هو جارى المسلم، داهمه نزيف ويحتاج إلى نقل دم، وكانت زيارتى له بعد ذهابى إلى الكنيسة، لكن زوجتى حذرتنى من التبرع له بدمى بعد التناول من الأسرار المقدسة.. هل أبادر بإنقاذ المريض أم أن ذلك لا يجوز؟!
وتسأل سيدة لماذا تمنع الحائض من دخول الهيكل والتناول وهل يراها الرب فعلاً فى هذه الحالة نجسة غارقة فى الدنس؟!
إنها نفس الأسئلة ونفس الفتاوى ونفس الهلاوس ونفس المناخ العبثى ونفس الاستقطاب الطائفى..
ومع تصاعد السباق المحموم الملتاث وتكاثر الأكشاك.. وشيوع الإيمان بالغيبيات.. يزداد التناحر والانقسام والتشرذم وتتآكل المواطنة، وتشتعل الحرائق وتمتد من «درب المواردى» إلى الأحياء المجاورة..