الظروف الاجتماعية دفعتهم للشارع.. والأطفال يحلمون بمستقبل أفضل
محررة «الوطن» خلال حوارها مع الطفل سعيد رشوان
«استقبلونا بابتسامة على الوجوه بداية من باب دار الحرية لرعاية الأطفال الكائنة فى منطقة عين شمس، حتى الانتهاء من لقاء رئيس الدار، لأخذ موافقة الحديث معهم». «كوكتيل أطفال زى الورد، بينهم اللبق، والذكى، وخفيف الدم، ومن يتحدث بشكل أكبر من سنه كثيراً، والخجول والحزين.. يشتركون فى مجموعة من الصفات من فقر مدقع، وتفكك أسرى، ومستوى دخل تحت المنخفض، وقسوة الأب تارة، والأم تارة أخرى، هذه هى أسباب وجود الأطفال بالدار، إلا أنهم يشتركون فى شىء آخر هو حبهم للتعليم، حتى إن جميعهم حدثنا عن وظائف مرموقة يحلمون بها».
«الوطن» ترصد قصصاً واقعية من حياة «أطفال دار الحرية»
حسين محمد.. يحلم بالهندسة: نفسى أعيش مع أهلى بس مش عارف مكانهم
«أعشق الرياضة، وطلعت الأول على مدرستى لأنى أذاكر كل دروسى، وحلمى أكون مهندساً» هكذا عرفنا «حسين» بنفسه فى بداية اللقاء، قائلاً إنه الابن الوحيد لوالديه اللذين توفيا بسبب أكلة طعام منتهى الصلاحية: «تربيت فى الشارع، لأن بابا وماما ماتوا بسبب أكل فاسد، ووقتها أنا كنت لسه صغير، والشارع كان هو بيتى، حتى تم إيداعى بدار الجمعية المصرية ثم دار الحرية» مضيفاً «أنا عارف إنى عندى جد وجدة بس مش عارف مكانهم، ونفسى أرجع لحضنهم تانى ونفسى هما يعرفوا مكانى، بس بشرط يوافقوا يخلونى أزور إخواتى بالدار كل فترة».
وبنبرة حزن واصل الحديث: «أنا عارف إنى هعيش طول عمرى مش هوصل لهم، وعشان كده أنا بذاكر كويس عشان أكون مهندس، وبالتزم بالأنشطة المقررة علينا فى الدار وبالصلاة».
وبالرغم من صغر سنه، يقول: «أجلس كثيراً فى مكتبة الدار بسبب حبى لقراءة كتب العلوم، ونفسى لما أكبر أشتغل شغلانة محترمة بعيداً عن الحياة فى الشارع، وعشان كده مصروفى 5 جنيه فى اليوم، وأهوى تحويشه عشان أجيب لنفسى حاجات حلوة».
ويؤكد «حسين» أنه يأمل فى لم شمله مع أسرته مرة أخرى مثل ما تم مع صديقه أحمد الذى تسلمته أسرته، ويقول: «نفسى أعيش مع جدى وجدتى بس يا ريتنى أعرف مكانهم، ولما أكبر وأخرج من الدار هرجع أزور زمايلى الصغيرين».
التوأمان: بنحب الشارع عشان أنقذنا من ضرب أبونا.. وبنكرهه عشان تُهنا من بعض 6 شهور
بالرغم من فرق السن الواضح بينهما، إلا أنهما ملقبان بالتوأمان، لارتباطهما الشديد ببعض روحانياً ووجدانياً وواقعياً.. «سيد ومحمد شحاتة»، 13 عاماً و11 عاماً، جمعهما الشارع وفرّقهما أيضاً، واتخذوا من فكرة اللجوء للشارع كمأوى هرباً من ضرب الأب المبرح لهما، ورفض الأم أن يعيش أطفالها معها بسبب طلاقها من الأب.
يقول «سيد» الأخ الأكبر: «الشارع أنقذنا من أبونا لأنه كان هارينا ضرب، وفى نفس الوقت أكره الشارع عشان محمد أخويا تاه منى 6 شهور فضلت أدور عليه فى كل حتة وقلبت عليه الدنيا، وماعرفش إنهم أخدوه دار رعاية». وعن كيفية لقائه بأخيه مرة أخرى، يروى «محمد» القصة قائلاً: «أبويا كان بيعلق صورنا فى محطات المترو على أننا تايهين، ومن هنا الدار بلغت بوجود أخويا محمد، وفيه ناس من الشارع اللى أنا كنت عايش فيه بلغوا بوجوده، فاتقابلنا تانى أنا ومحمد عند أبويا، ثم هربنا مرة أخرى لاستمرار ضربه لنا».
الأمنية الوحيدة للشقيقين «سيد ومحمد» هى لقاء عمتهما الكبرى «وعينا على الدنيا مالقناش حد حنين علينا غير عمتنا، نفسنا نشوفها، الدار كل فترة بتتصل عليها عشان تسمع صوتنا وتطمن علينا، إحنا خايفين أنها تيجى تزورنا عشان أبويا مايراقبهاش ويعرف مكاننا».
بدأت خطة هروبهما للشارع بالرغم من صغر سنهما، عندما وجه الأخ الأصغر سؤالاً لأخيه الأكبر: «انت عاوز ترجع البيت لأبوك؟»، فردَّ بالنفى، ومن هنا قررا اتخاذ الشارع مأوى لهما.
يعى سيد ومحمد جيداً، فكرة تأهيل الوالدين نفسياً واجتماعياً ليتم عودتهما لهما: «إحنا عارفين وفاهمين كل حاجة، بس والله العظيم مهما يعملوا مع أبونا وأمنا هيفضلوا يضربونا برضو، وأبويا كل يوم والتانى يتحبس بسبب النفقة».
ويختتم التوأمان، كما يطلق عليهما، حديثهما لـ«الوطن»: «لو فرقونا عن بعض فى مؤسستين، هنرجع للشارع أفضل من أنهم يفرقونا تانى، هنفضل مع بعض لحد ما نموت». وعن قصة حبه للدار، يقول سيد «الدار هى المكان الوحيد اللى أخويا مش هيتوه منى فيه، وعشان كده اتفقنا إننا مانتركهاش عشان نفضل مع بعض».
«سيد ومحمد» تسربا من التعليم لثلاث سنوات متتالية، لذا تقول مدير الرعاية بالدار، إنها تطلب من العمة الأكبر لهما بشكل سرى حالياً أن تقوم بسحب ملفيهما من مدرستهما الأولى، كى يتم إلحاقهما بمدرسة أخرى قريبة من الدار، إلا أن عمتهما تتخوف من بطش الأب.
الأشقاء الثلاثة: ماما طفشت من المنطقة بعد الجيران ما عرفوا علاقتها بالرجالة
«أحمد ومحمود ومحمد» أو الأشقاء الثلاثة، تعرضوا لمأساة بمعنى الكلمة ألقت بهم فى دار للرعاية، بعد أن كانوا يعيشون فى حضن والدتهم بعد وفاة والدهم، حيث يقول «أحمد مصطفى» الأخ الأكبر: «حكيت للجيران علاقة ماما بالرجالة، والجيران واجهوها وطلبوا منها تاخد بالها مننا، بس هى طفشت وسابت البيت، وصاحب العمارة أخد الشقة لأنها كانت إيجار».
أحمد مصطفى بالصف الخامس الابتدائى يحلم بأن يصبح طبيباً، ليلحق به أخوه «محمود» بالصف الثانى، ويقول بيقين «أنا ضابط جيش إن شاء الله»، ثم الأخ الأصغر «محمد» الذى يصعب فهم أو ترجمة ما يردده من كلمات بسيطة ليقول «أنا هطير مع اللعبة»، ليصحح له أخوه الأكبر «يقصد أنه نفسه يكون طيار».
«الثلاثة يعشقون ممارسة رياضة السباحة، ويمارسونها فى حمام السباحة الذى صمم خصيصاً للأطفال داخل الدار، وكل ما يشغل بالهم أن يظلوا معاً فى دار رعاية واحدة، حتى إنهم اختاروا أن يتم دمجهم فى مدرسة ابتدائية واحدة «عشان بنحب نطمن على بعض فى الفسحة».
الإخوة يعلمون جيداً البرامج التأهيلية التى تنفذها الدار لعودة الأطفال لأسرهم، إلا أنهم يرفضون هذا رفضاً قاطعاً، ليقول الأخ الأكبر أحمد «إحنا بنسمع الكلام، بس إحنا عايزين نفضل بالدار، ومش عايزين ماما تعرف إحنا فين، لأن إحنا هنا مبسوطين».
يوسف عمر.. أنقذته فرق الشارع من يد متسولة قبل بيع أعضائه: مش هارجع لماما إلا لو بابا مات
حينما تتحدث معه لن تصدق أنه يبلغ من العمر 10 سنوات فقط، فعقله وطريقة تفكيره تعطيك انطباعاً أنه ربما يبلغ 15 أو 20 عاماً، يمتلك من الذكاء واللباقة ما يجعل أى شخص يدخل الدار ينتبه إليه.. يوسف عمر الذى أنقذته فرق الشارع والوحدات المتنقلة من أيدى سيدة متسولة كانت تنوى بيعه لتجار الأعضاء البشرية.
لديه ابتسامة وروح وحضور وخفة دم، بالرغم من أنه عانى الأمرين من الأزمات الأسرية التى بدأت بانفصال والديه، وإدمان الأب للمخدرات.
تعامل الوحدة المتنقلة مع «يوسف» لم يكن بالأمر السهل، كما يروى أحد الأخصائيين بالدار، حيث بدأ من خلال «إبلاغ وزارة الداخلية حول المتسولة، لكونها ربما تكون مرتبطة بشبكة تجارة أعضاء بشرية، كما تم مراقبة الطفل بعد التعامل معه بطريقة تأمينه وتأمين المنطقة المحيطة له، حتى لا يتعرض لأذى أو يتعرض فريق الوحدات المتنقلة لأى ضرر». ويحكى يوسف «كنت عايش فى ميدان رمسيس، وفى يوم كنت بالعب فى الشارع، لاحظونى بتوع تحيا مصر، وقالوا لى هنوديك تعيش فى بيت حلو فيه ألعاب وحمام سباحة، قلت لهم بشرط تعرّفوا أمى عشان تيجى تزورنى من ورا أبويا».
ويضيف: «بافرح لما ماما بتيجى تزورنى، بس بخاف ليكون أبويا بيراقبها ويعرف مكانى ويخرجنى من الدار ويشغلنى معاه فى الرخام تانى ويضربنى، لأن أبويا ضربه صعب قوى»، ويتابع «خناقات أبويا وأمى هى سبب هروبى من البيت، وماما عارفة مكانى وبتيجى تزورنى، وعايز إخواتى ييجوا يزورونى، بس للأسف أحمد وضحى عايشين مع ماما، ومحمد عايش مع بابا ونفسى أشوف محمد».
وعن سبب اعتداء والده عليه باستمرار: «أبويا زعل لما باع ورشة الرخام بـ5 آلاف جنيه وضيَّع الفلوس على المخدرات، وكان بيحط همه فيا ويضربنى».
وعن رغبته فى العودة للعيش مع والدته، يقول «يوسف»: «نفسى أعيش مع ماما، بس بابا هيعرف مكانى ويرجع ياخدنى ويضربنى، وقلت لماما هعيش معاكى بس بعد موت بابا». وقبل أن ننتهى من الحديث معه طلب منا تصوير أحد مظاهر اعتداء والده عليه، وكانت عبارة عن «لسعة بفخذه بسكينة تم تسخينها على النار»، والسبب «أبويا ضيَّع فرش الحشيش وقالى انت السبب».
محمد السيد: نفسى لما أكبر أطلع أى حاجة بس مارجعش لأبويا تانى
«بابا سابنى على جنب عند الحلاق، وفضلت أعيط وهو ماجاليش، ومش عايز أرجع له لأنه كان بيضربنى جامد هو ومراته، عشان ماما ماتت وأنا صغير» هكذا بدأ محمد السيد، الذى لم يكمل عامه السادس، حديثه.
«محمد» يهوى الأنشطة والرياضة ونزول حمام السباحة الخاص بالدار، وحينما سألناه: نفسك تطلع إيه لما تكبر؟ لم يعِ معنى السؤال، فأجاب مسرعاً بنبرة حزينة «مش عايز أرجع لأبويا، ولو فتحولى الباب وقالوا لى اخرج مش هخرج عشان بابا لو شافنى هيضربنى». ويضيف الطفل الصغير «لما أدخل المدرسة، هعمل الواجب كل يوم، وهذاكر، وباسمع كلام إخواتى فى الدار، وكلام الأخصائية، لأنها بتحبنى».
لم يتفوه «محمد» بكلمة إلا ويتذكر ضرب والده له «لما أكبر هكون حد كويس ومش هعيش فى الشارع، عشان الشارع بهدلة وتحيا مصر أخدونى وجابوا لى لبس جديد، ومش هضرب ولادى لما أتجوز زى بابا ما عمل فيا».
سعيد رشوان: أهلى استحملونى سنة واحدة بعد وفاة بابا وسابونى فى الشارع عشان الفلوس
«الدنيا ضيقة وصغيرة».. كلمة بدأ بها «سعيد» حديثه وهو يعرفنا على قصته، قائلاً إنه يبلغ من العمر 13 عاماً، رغم نحافة جسده وانخفاض صوته وعينيه الصغيرتين، مؤكداً أن عائلته تخلوا عنه ورموه فى الشارع بعد وفاة والده، ولم يتحملوه أكثر من سنة واحدة وبعدها لقى نفسه فى الشارع. ويضيف «سعيد»: «ماما ماتت وهى بتولدنى، وبابا مات فى حادثة وأنا عندى 9 سنين، وأهلى قالوا مش هيقدروا يصرفوا علىّ، وإخواتى فى الدار هم كل أهلى، وبيحبوا الرسومات الخاصة بى».
وحدثنا عن تفاصيل رسوماته قائلاً: «نفسى أكون رسام، وسمعت عن أن الكلية اللى بتخرج الرسامين اسمها كلية الفنون الجميلة، وإن شاء الله هدخلها، وبحب أرسم النخل والطبيعة والأشخاص كأنهم حقيقة».
يتذكر «سعيد» ذكريات طفولته، ويقول: «مش فاكر أى حاجة لأنى بعيد عن أهلى من حوالى أربع سنين، مش عارف غير إن المكان اللى أنا اتولدت فيه اسمه السيدة زينب، وكان ليا صحاب هناك بس أكيد زمانهم نسيونى».
محمد يحيى طفل تحت التأهيل: عايز أطلع ظابط عشان أحبس اللى بيضربوا الأطفال
مشهد سيارات فرق البرنامج التى تجوب الشوارع لجذب الأطفال بدور الرعاية، وحديثه مع «بيشوى عدلى» أخصائى الوحدة المتنقلة التى نقلته من الهرم لدار الرعاية، لا يفارق خياله قائلاً «أنا وأستاذ بيشوى أصحاب، وكان بيجيلى كل يوم يطمن عليا، وفى يوم قال لى إنه ممكن يودينى دار حلوة وفيها ألعاب وأنشطة وحمام سباحة ولبس جديد، وبعدها ركبت الأوتوبيس الأبيض وجيت على الدار ومش عايز أرجع الشارع تانى».
وأضاف محمد يحيى: «أنا فى الشارع من زمان أوى، وأنا اللى هربت من البيت عشان أبويا بيضربنى وكل يوم يعتدى عليا، ونفسى لما أكبر أكون ظابط عشان أحبس كل اللى بيضربوا الأطفال».
وعن إمكانية عودته لأهله بعد انتهاء مراحل تأهيله، وتأهيل أسرته أيضاً، يقول: «يا ريت نفسى أرجع لبابا وماما، بس بابا مايضربنيش تانى ومش ههرب منه، ونفسى أشوف إخواتى الستة بسام وشعبان ونجلاء ونوسة وحنان وحياة».