"يا مضروبين بالفن يا إحنا يا سهرانين منه الليالي.. ما نسلاهوش ولو اندبحنا ده الفن عند صحابه غالي".
والسينما أجمل الفنون وأكملها، صندوق الدنيا الذي يحملني لأرض غنية بالأحلام، ذلك الضوء المنبعث في الظلام والصور المتتابعة كنغمات مكتملة، تعكس ظلال الواقع وخيالاته، لذة الحواس المجتمعة في عالم الحواديت التي لن تنتهي، بأشخاصه وغرائبه التي نتوحد معها وتؤنس وحدتنا في الواقع البخيل، نتلصص على تفاصيل كل قصص الحب بمباركة أصحابها، نعرف أسرار الجروح وخبايا الصدور، نطارد أحلامنا أثناء متابعة البدايات، ما بين التلميح والتصريح تذوب الأرض تحت أقدامنا لهفة، نعيش أعمار وتجارب في دقائق، نسافر ونحلم، نحب ونكره، نعاشر ونهجر، نراقب مآسي أصدقاء محملين بنفس الهموم، نجد فيها مواساة وبلسم لكل الآلام.
هذا السحر الذي يتجلى من الخطوط التي تتلاقى وتتباعد، دلالات الألوان والأضواء وتأثيرها في النفوس، التفاصيل الدقيقة التي تمر في الحياة دون ملاحظة نراقبها على هذه الشاشة بانبهار، وندرك ما فاتنا من جمال، حتى لحظات الصمت مسموعة بالنظرات الممتلئة بالكلام والأحساسيس المترجمة بالألحان، المشاعر التي كانت محايدة تتبدل في ثواني وتميل، سطوة جمال الصورة الذي يملأ فراغ الصدور والعقول بمزيج من الدهشة والبهجة والشجن والضحكات والدموع، تعلو دقات قلوبنا في الذُرًى، نذرف دموعنا عند الوصول لمصير أبطالنا المحتوم.
أدركت سر ولهي وعذابي بعالم الأفلام عندما كنت أشاهد المسرح الكبير الممتلئ بالراقصين، في عمق الصورة أنور وجدي يعزف الجاز ويمضي خطوة للوراء في اتجاه الخروج من المسرح، وليلى مراد تغني "كلمني يا شاغلني.. طمني يا ظالمني"، مزيج رائع من غناء ليلى وعزف أنور المتبادل المتكرر في جمل قصيرة ساحرة، أمام الرقصات الرشيقة والصورة المبهجة سرت قشعريرة في جسدي، وغطت طبقة رقيقة من الدموع مقلتي عند تصفيق جمهور المسرح المشارك في اللعبة البصرية، دموعي كانت وصال روحي بالجمال الذي شاهدته وسمعته على تلك الشاشة.
كانت الأفلام الاستعراضية محركة في البداية لنوبات عشقي بكل ما فيها من ألق وجمال، فضلت الإغراق في متابعتها على دروس الكيمياء والرياضات واللغات، تطرق أمي بابي المغلق الذي أوصده بالساعات، تريد معرفة سري، في الغرفة أضع زهورا في شعري وأرتدي جونلة كلوش وأحاول تقليد سامية جمال في رقصة الربيع "وموجه الهادي كان عوده ولون البدر أوتاره يناغي الورد وخدوده يناجي الليل وأسراره"، أتعثر ويخونني خيالي في استرجاع الخطوات، تغضب عندما أنسى الطعام يشيط على النار، حين يناديني صوت جهاز التليفزيون من شباك صالة الجيران المقابل لشباك مطبخنا، لأشاهد فريدة فهمي ورقصتها الأولى على مسرح الفرقة، في اختبار تعلن قفزة محمود رضا المفاجئة الساحرة اجتيازها له، يأخذ يدها ويشاركها الرقص، في لحظة أنسى فيها عالمي تماما، هجرت مطبخك يا أمي وانضممت لمسرحهم.
وأدركت مأساتي في فترة التقديم للجامعة، أبكي طوال الوقت، لا خوف من أن تفوتني فرصة الالتحاق بإحدى كليات القمة، بل من صمتي وقلة حيلتي في الإعلان عن رغبتي الفعلية، في مجتمع ريفي لديه مفاهيمه ومعتقداته وتحفظه في استقبال الفنون، لم يكن لدينا وسائل ترفيه ولا أنشطة في المدارس نكتشف بها أنفسنا، نشأت ووسيلتي لإدراك نفسي وسر عذابي تلك الشاشة الصغيرة التي نمتلكها في بيتنا، تعرض عشرات الأفلام، سحرني عالمها المتاح فيه كل شيء بديلا عن عالم جاف ممنوع فيه أي شيء.
بين محاضرات الرياضة البحتة ومحاسبة التكاليف ضاعت أحلامي وتضاعف صمتي وانهزامي، المدينة الخالية من دور العرض السينمائي حطمتني، أهرب من محاضراتي إلى مقهى قريب من الجامعة، أشاهد الأفلام التي تعرضها وصلات الدش المسروقة، وسط الشوق للذة المشاهدة في صالات العرض، الظلام الذي يشبه ظلام النوم حيث تتولد الأحلام صورا تعكسها ماكينة العرض على الشاشة الكبيرة المبهرة.
عندما تلقيت تدريبا في مكتب محاسبة لمدة ستة أشهر كنت استشعر نظرات وهمسات ساخرة من بعض الفتيات تجاهي، صموتة دائما، منفصلة تماما عن عالمهم الذي يتحدثون فيه دائما حول أشياء تُدعى قيود اليومية ودفتر الأستاذ وميزان المراجعة، عندما اختنق أٌجيد فن الغياب عنهم بقرأة كتاب عن سينما محمد خان وكواليس تصوير أفلامه، أحلام هند وكاميليا وطائرعلى الطريق ورحلة عمر.. يستدعي خيالي هربا وسط كل هذا مشهد فارس وهو يحاول الإمساك بطائرته الورقية على الشاطئ فتفلت منه، وجملة فوزية له ترن في أذني "أنا كمان من جوايا خالص كنت حاسة أن فيه حاجة لازم تحصل".
عندما تقترب مني إحداهما، تحدثني في أمر من الأمور، أطلب منها إعادة ما كانت تقول مرة أخرى فتسألني عن سر شرودي وما كان يشغلني عن حديثها لي، لا أتردد في إخبارها عما أفكر به وأندفع في الحديث بتلقائية، "كيف قام ثلاثة مخرجين بعمل ثلاث نهايات تبدو متشابهه من حيث التنفيذ لحكاياتهم المختلفة مستخدمين العناصر نفسها تقريبا بينما يختلف إحساسك بكل نهاية كليا عن الأخرى"، أرى علامة التعجب على وجهها، فأستطرد موضحة "ثلاثة مشاهد للأخت العاهرة وأخيها المحمل بالعار، جثة الأخت الملقاة في الطريق بين المارة في انتظار ردة فعل الأخ الأخيرة تجاه ذلك الجسد، بينما يحتضن الدكتور ولاء أخته في دماء على الأسفلت ويجيب سؤال أحد المارة عن الفتاة (ثناء.. أختي ثناء)، ينكر حسنين نفيسة ويحمل متولي جسد شفيقة بين ذراعيه غارقا في دموعه ودمائها"، كيف يٌضيع الواقع التفاصيل تماما ويقدم وجها واحدا للحقيقة معتمدا على أحكامه المسبقة، يجعل تشابه المصائر ذريعة لتشابه جميع الحكايات ويوحد إحساسك تجاهها، بينما تحتفظ السينما بالتفاصيل حيه، فنرى الصورة واضحة، وندرك للحقيقة وللنفس البشرية وجوها وألوانا عدة، تأسى الفتاة لحالي وتمضي دون كلام.
على حافة الجنون يراني البعض، أترك الواقع وأعيش في عالم صنعته الأفلام، يزداد صمتي ونحولي وانطوائي، وهلاوسي التي أزعج بها غيري، تبعات عشق معقد غير مفهوم للبعض، لا يعتريه الضيق أو الملل من التكرار، فلا خلاص من دائرة إدمان مشاهدة الأفلام والتفكير الدائم بعالمها، الدعوة مفتوحة لي دائما بالتركيز قليلا في الحياة وما يدور فيها، أحاول الهروب من الخيالات التي تطاردني بالنوم، في الأحلام تزورني دموع شريفة خلف نافذتها تودع عالم منصرم، تودع أبيها، تودع عصام، صوت هدى سلطان تغني في حنطور مع الأسطى حسن "محلى جمال الليل يا عزيزة وإنتي معاكي حسن وعزيزة"، خطابات قرية البوسطجي الذي يقرأها فيعرف سر جميلة، صندوق هدوم هنومة الذي يحمله القطار إلى فاقوس بينما بداخله حلاوتهم تصارع الموت، مائدة إفطار منزل عبد الحميد أفندي التي تجتمع عليه الأسرة فى حضرة الضيف الهارب من البوليس السياسي، مفتاح المنزل رقم 13، المرآة التي نري فيها حضور علي أخيرا مع حسين ورفعت فندرك لماذا ترقص كريمة مبتهجة، مونولوج شويكار الموجه لفاتن حمامة "اتفضلي حاضريني عن الخيانة حاضريني عن الفضيلة"، مباراة فارس الأخيرة التي يلعبها من أجل ابنه، من أجل أن يخرج من الملاعب للحياة منتصرا، استجداء صوت عفاف راضي لي "عيني.. منى عيني ..تجي جنبي"، تعززهها دعوة محسن محي الدين في رقصته "ونروح لبعيد في ألذ مكان"، غناء ليلى جمال المصاحب لركض ماجدة في المدينة المتوهجة بالألوان "اللي نادالي يا با صوته ولا الربابة للمحرومين صبابة.. نِدا ماية سواقي تحيي الأرض الشراقي وتسعد الغلابة ومش بأيدى يابا ومش بأيدى يابا".