سنوات أمضيتها فى عاصمة الضباب «لندن»، لم نكن نعير اهتماماً للألقاب، سواءً داخل الجامعة أو خارجها، بل ينصبّ جُلّ اهتمامنا على التحصيل العلمى والنهج الأكاديمى والاحتكام للضوابط المعرفية فى كل مناقشة أو اختبار أو بحث علمى محكم، بكل ما فى التجربة من تفاصيل يعلمها كل من حظى بفرصة الدراسة فى أوروبا، وخاصة فى بريطانيا.
وما تلبث أن تلمس ذلك الفرق الكبير فى الاهتمام بالألقاب لدى العودة إلى أرض الوطن، بدءاً بلقب «دكتور» لمن يعمل معيداً فى الجامعة أو يقدم استشارات، و«اللواء» لمن تقاعد برتبة «مقدم» أو «عقيد»، أو مهندس لكل من يحترف مهنة فنيّة. تلازمنا الألقاب بصرف النظر عما نِلناه من شهادات أكاديمية أو درجات وظيفية حقيقية أو مؤهلات مهنية، لنكتفى بالأقدمية والنظرة الشخصية لنُتوّج بلقبٍ أو رتبة لا نستحقها.
لا أتناول فى هذه السطور ما يستحقه كل صاحب مهنة أو حرفة أو مكانة أو اختصاص من لقب وتقدير، لكنى أود تسليط الضوء على بعض الإشكاليات المرتبطة بمصداقية الألقاب والفجوة بين من يحملها وكفاءة ومهارات وقيم صاحبها ومكانته الحقيقية:
أولاً: غياب هيئة أو مركز قومى مختص بتوثيق ومعادلة المؤهلات العلمية والدرجات الأكاديمية على غرار الدول المتقدمة مثل «الهيئة الوطنية للمؤهلات فى الإمارات» و«National Qualifications Authority» فى إيرلندا و«Qualifications and Curriculum Authority QCA» فى بريطانيا وغيرها، بهدف اعتماد الشهادات والمؤهلات وعدم السماح باستخدام اللقب العلمى والمهنى إلا وفقاً لمعايير مرتبطة بالتحصيل العلمى والخبرة العملية وبصورة ممنهجة ودقيقة.
ثانياً: يلهث الكثير خلف الألقاب لنيل تقدير أو تبجيل فى المجتمع، ويحرصون عليها كذباً وتزويراً، وما أن يوضعوا على محكّ صعب فى مجالهم المهنى الذى يُحتّم عليهم الخروج منه باقتدار بحكم ما يدّعون من مؤهلات، حتى تطفو ركاكتهم على السطح، وينكشف المستور من زيف وادعاء، وهذا أحد أنواع (النصب المجتمعى) الذى يُلحق الضرر بسمعة الدولة العلمية.
ثالثاً: يُغدق بعضنا على بعضٍ ويبالغ بألقاب التبجيل وتضخيم ذات الآخرين من أمثال «معالى» أو «سعادة»، وما أسرع تلاشيها حين ينطق السلوك وتنجلى الأخلاق، والحقيقة أنك لست «سعادة» إلا لمن حققت فى قلبه سعادة، ولست «معالى» إلا لمن كان قدرك عنده عالياً، بما تتحلى به من حسن الخلق وطيب السيرة، بالطبع مع الاحتفاظ بحق المستويات الوظيفية العليا التى لها أحقية المعالى والسعادة بحكم وظيفتها ومرتبتها وتاريخها وظيفياً أو تقاعدياً.
رابعاً: تنتشر فى هذه الآونة تجارة رائجة لها مستثمروها فى مجتمعاتنا، تجارة «الشهادات والألقاب»، فهذا مركز يمنحك عضوية «محكم معتمد»، وذاك يتوّجك بـ«دكتوراه مهنية بطريقة تيك أواى،» وهؤلاء يقلّدونك بطاقة «مستشار وخبير دولى فى أيام حضورياً أو غيابياً»، وهكذا تنشط سوق المؤهلات المزيفة بلا ضوابط، فيغيب عن المشهد مَن بذلَ الغالى والنفيس فى سبيل العلم والمعرفة ونيل شهادة من جامعات معترفٍ بها، فتتلاشى أحقيته فى الحصول على مكانة هو أهلها ليزداد مؤشر الإحباط المجتمعى.
أخيراً، يبقى السؤال: هل يحدد اللقب مكانة الشخص؟ وماذا لو أدركنا الهوة السحيقة معرفياً وسلوكياً ومهاراتياً بين (اللقب) و(صاحبه)؟ أملنا أن تلتفت الدولة إلى الآثار السلبية لهذا الوضع الخطير نتيجة لغياب هيئة اعتماد وطنية للمؤهلات، تمنح خريجى المؤسسات التعليمية مكانتهم التى يستحقونها، وتنظم سوق العمل المهنى من حيث القدرات والمتطلبات والشروط والمهارات والخبرات والجدارات، حتى لا تندثر السمعة الأكاديمية والمهنية بأيدى مَن يلهثون خلف الألقاب الوهمية بلا حسيب أو رقيب.