إن الحالة الدينية فى منطقة الشرق الأوسط تتغير باطراد، وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فإن هذا التغير لا يصب أبداً فى مصلحة التيارات التكفيرية، كما أنه ينزع نحو فصل الدين عن السياسة، إذ ترفض النسب الغالبة بين المتدينين استخدام الحكومات للدين فى تبرير سياساتها أو فى كسب العمليات الانتخابية.
تختلف تلك التوجهات اختلافاً كبيراً عما كان سائداً غداة اندلاع الانتفاضات فى أكثر من بلد عربى مع مطلع العقد الحالى، وهى انتفاضات تحوّل أغلبها لاحقاً إلى أعمال عنف واقتتال أهلى، وفتح بعضها الباب أمام تيارات دينية أرادت أن تقيم دولتها على أنقاض النظم السابقة.
يفيد «المؤشر العربى للعام 2016»، الصادر عن «المركز العربى للأبحاث ودراسة السياسات»، أن 77% من عيّنة قوامها 18310 أشخاص، فى 12 بلداً عربياً، يرون ضرورة عدم تأثير القادة الدينيين على العمليات الانتخابية، كما يرفض 74% منهم استخدام الحكومات للدين وقادته الروحيين للحصول على التأييد السياسى.
تختلف تلك النتائج كثيراً عما كان سائداً فى مطلع العقد الحالى من احتفاء كبير بدور التصور الدينى فى الحياة السياسية والاجتماعية، كما توضح نتائج الاستخدام المسىء للعاطفة الدينية التى كانت أداة تلاعبت بها، للأسف، تيارات وتنظيمات ذات ارتكاز دينى من أجل تحقيق أهداف سياسية.
لا تتفاعل التغيرات الدينية الحادة فى منطقة الشرق الأوسط فقط، ولكنها تزدهر أيضاً فى مناطق مختلفة من العالم بشكل يدعو إلى مزيد من الفحص والدرس لملاحقة تطوراتها المذهلة.
ففى أستراليا، اضطر المكتب الأسترالى للإحصاء أن يضع باب «بلا دين» على رأس الأبواب التى أجرى على أساسها إحصاء الحالة الدينية فى البلاد لعام 2016. يعنى باب «بلا دين» فى صحيفة الاستبيان التى يقدمها المكتب الأسترالى للإحصاء، أو أى من مراكز البحوث واستطلاع الرأى الأخرى، أن بعض المستطلَعة آراؤهم سيقرر اختيار تلك الخانة عند سؤاله «ما دينك؟». واختيار الإجابة «بلا دين» لا يعنى بالضرورة أن صاحبها «ملحد»، كما لا يعنى أيضاً أنه لم يولد على ديانة معينة، وربما يكون قد تم تعميده فى كنيسة، أو ذهب برفقة أسرته إلى الحج فى مكة، لكنه ببساطة شديدة لا يجد أنه مؤمن بدين محدد، ولا يعتقد فى أى من الرسالات الدينية التى نصنفها سماوية أو غير سماوية. وعندما تزيد رقعة «اللا دين» فى مجتمع ما، فإن هذا الأمر يشير إلى تطور جوهرى فى الحالة الدينية لهذا المجتمع، لكن عندما تكون هذه الزيادة بمتوالية هندسية، وعندما تحدث فى أكثر من مجتمع فى مناطق مختلفة من العالم، فإننا نكون بصدد تحول عالمى مهم، وهو تحول لا يخص الحالة الدينية فقط، لكنه ينعكس بوضوح على السياسة والأمن والاستراتيجية والقيم والأخلاق وأنماط الحياة.
يقول مكتب الإحصاء الأسترالى إن نسبة من قالوا إنهم «بلا دين» فى إحصاء عام 2016 ارتفعت بمتوالية هندسية، لتبلغ 29.6% من الأستراليين، مقارنة مع 22.6% فى عام 2011، و19% عام 2006.
يعنى هذا ارتفاعاً لغير المنتمين لأى دين من خمس السكان إلى أقل قليلاً من ربعهم، وصولاً إلى ما يقارب الثلث، فى عشر سنوات فقط.. إنه تطور مزعج، يجب أن يكون محل درس عميق.
لا يقتصر الارتفاع فى عدد «أتباع الدين الجديد» (اللا دين) على أستراليا فقط، بل إن الأمر ذاته حدث فى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أفادت دراسة أجراها مركز «بيو» للأبحاث أن عدد البالغين الذين قالوا إنهم «يؤمنون بالله» انخفض إلى 89% عام 2014، مقابل 92% فى 2007، أما عدد الأمريكيين الذين لا يعتنقون أى ديانة، فقد زاد إلى 23% من إجمالى السكان، مقابل 16% فقط فى فترة المقارنة ذاتها.
بحسب دراسة «بيو» فإن ربع الأمريكيين تقريباً من أتباع الدين الجديد (اللا دين)، وهو أمر مزعج للقادة الدينيين بكل تأكيد، لكنه أقل إزعاجاً إذا ما تمت مقارنته بالوضع فى بريطانيا التى تشهد أرقاماً مثيرة للاهتمام فى هذا الصدد.
ففى دراسة أجرتها جامعة «سانت مارى»، غرب لندن، ظهر أن ما نسبته 48.6%، أى نصف سكان بريطانيا تقريباً، «من دون ديانة»، فى حين شهدت نسبة المسيحيين انخفاضاً من 55% إلى 43% بين الأعوام 1983 و2015، مقابل تضاعف نسبة أصحاب الديانات الأخرى غير المسيحيين أربعة أضعاف، كالديانة الإسلامية، خلال الفترة ذاتها البالغة 32 عاماً.
لقد بدا واضحاً أن «الدين الجديد» يتقدم فى مناطق العالم المختلفة، ورغم عدم وجود إحصاءات موثوقة، أو نسق حريات كافٍ، فى منطقة الشرق الأوسط، لإجراء مثل تلك البحوث والاستطلاعات، فإن البعض يعتقد أن ثمة تقدماً أيضاً لـ«الدين الجديد» فى العالم العربى، عبر زيادة ملموسة فى نسبة الإلحاد، والميل إلى التحلل من الانتماء الدينى، وهى زيادة حذر منها قادة دينيون واجتماعيون بارزون.
من الضرورى جداً تقصى الأسباب التى دعت إلى تفاقم تلك الظاهرة، وزيادة رقعة «اللا دين» فى خريطة الحالة الدينية العالمية، وهى أسباب متنوعة، لكن العولمة، وتجلياتها الاتصالية خصوصاً، تأتى على رأسها.
فمن خلال النسق المعلوماتى والاتصالى الذى خلقته العولمة وأمّنت له الاستدامة والازدهار، أمكن للجمهور التعرف إلى أنساق دينية واجتماعية مختلفة، كما بات بوسعه أن يعاين ويختبر القيم والمقولات والحجج التى تدعم نسقه الدينى، ويضعها فى سياق مقارن مع مثيلاتها فى الأديان الأخرى، وأن يطلع على الانتقادات الجوهرية بحق اعتقاده، وأن يشهد تجريد مقدساته من ذرائع تقديسها، عبر الفضاء المنفتح، الذى لا يضبطه ضابط ولا يحده حد.
ثمة سبب آخر لا يقل أهمية، وهو السبب المتعلق بالتقدم العلمى المذهل الذى حطم فى طريقه الكثير من التأويلات الدينية الخاطئة التى سبق أن ادعت ادعاءات خلطت بين العلمى والدينى، ثم فُجعت لاحقاً بظهور الحقائق العلمية التى كشفت زيف تلك التأويلات وتهافتها، ما انعكس على ثقة بعض المتدينين، وجعلهم أكثر مطاوعة لـ«الدين الجديد».
يأتى عقم الخطاب الدينى كسبب رئيسى من أسباب توفير الدعم لـ«الدين الجديد»، خصوصاً عندما ينصرف هذا الخطاب عن كل قيمة وجوهر، ويُغرق أتباعه فى التفاصيل والقضايا الهامشية، ويعمد إلى التفسيرات الحرفية، والتأويلات الملتوية.
لكن التنظيمات الإرهابية، التى اتخذت العقيدة مطية لتسويغ جرائمها الشنيعة، تظل أهم الأسباب التى تدعم الظاهرة الجديدة المزدهرة، إضافة إلى التوظيف السياسى للدين، والانخراط فى الحروب الطائفية، الذى ينعكس لاحقاً فى صراعات مريرة بين أتباع الأديان والمذاهب، تكون نتيجتها أرضاً جديدة يكسبها كل يوم «الدين الجديد».
بسبب الممارسات المسيئة لبعض التيارات الدينية ذات الأهداف السياسية تتأثر حالتنا الدينية، وسيكون على الدولة والمجتمع والقادة الدينيين أن يبذلوا جهوداً كبيرة لمساعدة الناس على البقاء متدينين من دون أن يقعوا ضحايا للاستغلال السياسى والانحراف الفكرى.