شىء صعب جداً أن يسترخص بعضنا دماء بعض، وأن يتحول الدم إلى «أداة للتربح». استرخاص الدم والمتاجرة به مشهدان ظهرا بوجههما البشع فى كارثة قطارَى الإسكندرية التى راح ضحيتها العشرات، وأصيب فيها المئات. لا يتحدثن أحد عن الحكومة، فالحكومة لن تفعل شيئاً. العاقل من ييأس منها، فى كل مرة تقع فيها حادثة قطارات نسمع نفس الكلام من المسئولين، دون أى تغيير فى الأداء، ونظل هكذا حتى تقع واقعة جديدة، دعونا نتحدث عن ممارسات المصريين بعضهم مع بعض.
مشهد استرخاص الدم بدا واضحاً فى الموضوع الذى نشرته جريدة الجمهورية، وجاء فيه أن سائق القطار لم يأبه لإشارات التحذير التى تنبهه للوقوف، وعندما نبهه مساعده إليها، قال له السائق «بيعملوها كتير»، فما كان من المساعد إلا أن ترك العربة الأمامية وتحرك إلى الخلف، بعيداً عن الخطر القادم. اللامبالاة السياسية أمر لا غبار عليه، فهى سمة من سمات الكثيرين، لكن عندما تصل اللامبالاة إلى محطة «الإنسانية» وننتقل من اللامبالاة السياسية إلى اللامبالاة الإنسانية فنحن أمام خطر حقيقى. الاستهتار جزء من أداء الكثيرين، لكن عندما يصل إلى حد الاستهتار بأرواح الناس، فالمسألة تختلف. اللامبالاة بحياة البشر والاستهتار بأرواحهم يظهران فى مشاهد ومواقع عدة من حياتنا، فى الشوارع والمستشفيات وعلى قضبان السكة الحديد. على المصريين أن يتوقفوا ويسألوا أنفسهم: ماذا حدث لنا، حتى أصبح بعضنا يسترخص دماء بعض بهذه السهولة، وذلك اليسر؟. ظنّى أننا لو واجهنا أنفسنا بهذه الحقيقة فإن جراحات عديدة سوف تلتئم فى حياتنا.
مشهد المتاجرة بالدم ظهر فى مجموعة المحامين الذين تحركوا على المصابين وأهالى ضحايا قطارَى الإسكندرية لعمل توكيلات لهم لمطالبة الحكومة بتعويضات، فى مشهد يمثل فى الواقع ما سبق أن عالجه فيلم «ضد الحكومة» الذى قام ببطولته المبدع الراحل أحمد زكى، ويحكى عن مافيا التعويضات، وتدور أحداثه حول واقعة صدم قطار لأوتوبيس مدارس، ما تسبب فى مصرع وإصابة عدد من الأطفال. لست أشكك بالطبع فى ذمم المحامين الذين يعيدون تمثيل هذا الفيلم فى الإسكندرية، لكن المشاهد التى نقلتها الفضائيات التليفزيونية للمصابين فى الحادث تنقل لنا صوراً لمجموعة من المواطنين البسطاء الذين تعوزهم الطاقة الإنسانية والقدرة المالية اللازمة لتمويل مثل هذه القضايا، ومؤكد أن محامى التعويضات لن يقوموا بالأمر لله، وهو أمر طبيعى، فمن حقهم أن يحصلوا على أجر نظير أتعابهم، والسؤال: من أين سيحصل هؤلاء المحامون على مقابل جهدهم؟.
زمان كنا نصف أنفسنا بأننا شعب «عاطفى»، للتستر على آفة غياب العقلانية فى التفكير وعند النظر إلى الأشياء. وقد ظهرت هذه العاطفية والإنسانية فى اللحظة التى وقعت فيها الحادثة، حين هرع أهالى منطقة «خورشيد» بالإسكندرية إلى إنقاذ الضحايا، وبذلوا جهداً جهيداً فى هذا السياق، يشهد على رقيهم وإنسانيتهم، لكن «الحالة العاطفية» التى تميز شعبنا توارت واختفت فى العديد من المشاهد الأخرى، لتؤكد أن الكثيرين بعد أن فقدوا «عقلانيتهم» أصبحوا فى الطريق لفقد «شعاع العاطفة».