تونس من الدول السباقة فى التعامل مع المسألة الدينية. أيام الحبيب بورقيبة اتُخذ قرار بمنع تعدد الزوجات ومعاقبة الرجل الذى يجمع على زوجته الأولى، وبعد قيام ثورة تونس أوائل 2011، والإطلالة التى حظى بها التيار الإسلامى هناك، علت بعض الأصوات تدعو إلى إلغاء قانون منع التعدد، اتساقاً مع توجيهات الشريعة الإسلامية، لكن هذه الدعوات جوبهت بالرفض من جانب القوى المدنية. مؤخراً نشرت الصفحة الرسمية لدار الإفتاء بالجمهورية التونسية، بياناً بعنوان «هنيئاً للمرأة التونسية فى عيدها الوطنى»، تعلن فيه تأييدها لتوجهات الرئيس «السبسى» التى تمنح المرأة المسلمة حق التساوى مع الرجل فى الميراث.
لا خلاف على أن مثل هذه القرارات يكون لها وقع صادم على بعض المسلمين، لكن بقليل من التفكير يمكن أن يخف وقعها عليهم. ثمة نصوص قرآنية عديدة تحدد الأنصبة فى الميراث، وهى شأن نصوص أخرى كثيرة يرى الكثير من المسلمين أنها تحمل جوهر «الشريعة»، وبالتالى تجدهم يرفضون أى تدخل أو اجتهاد من جانب البشر فى تطبيقها، رغم أن التاريخ الإسلامى يشتمل على مواقف عديدة قام خلالها بعض الأفاضل من الحكام بتعليق حد معين من الحدود التى نص عليها القرآن، النموذج الشهير على ذلك ما قام به الخليفة الثانى عمر بن الخطاب من تعليق لحد السرقة فى عام المجاعة، بالإضافة إلى إسقاط سهم المؤلفة قلوبهم بعد أن قويت شوكة الإسلام، فالإيمان بكتاب الله وشريعته لا يتناقض مع الانشداد إلى الواقع وفهم ظروفه ومعطياته، والاجتهاد فى سياقها عند تطبيق أى حكم. الله تعالى وضع تلك القاعدة فى قرآنه الكريم، فأحل المحرم عند الاضطرار «فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم»، ففى حال المجاعة يصح أن يلجأ المسلم إلى أكل الميتة، رغم أنها محرمة بنص القرآن، حماية لحياته.
الظرف أساس تطبيق الشرائع. بعض المصريين يفعلون ما هو أكبر من ذلك فى مسائل الميراث، فلا يعطون المرأة نصف نصيب الرجل، بل يحرمونها من الميراث كاملاً. فى الصعيد على سبيل المثال تشيع هذه العادة، لأن العصب الذكورى يرفض رفضاً قاطعاً أن تتسرب الأملاك العائلية إلى ذكر من خارج السرب. العادة هنا هى الحاكمة، وليس الشرع بمعناه الحرفى، أو بالاجتهاد فى تطويعه طبقاً لسياقات الظرف، العادة هى المحرك الأول للبشر، وثمة عادات كثيرة أبقى عليها الإسلام من منطلق عدم الرغبة فى التصادم مع ما هو سائد فى دنيا البشر. يكفى فى هذا السياق أن نشير إلى أن الإسلام أبقى على عدد من طقوس الحج فى الجاهلية، رغبة فى التواؤم مع الواقع، وثمة أحكام عديدة اختلفت عندما انتقل النبى من مكة إلى المدينة بعد الهجرة، وبالتالى فالتمسك الحرفى بنصوص القرآن يعنى قفزاً على طبيعة هذا النص الكريم القادر على التعامل مع البشر فى كل الظروف والأحوال، ويمنحهم المساحة كاملة فى تطويع أحكامه طبقاً لمقتضيات الظرف. فالله تعالى الذى منح الإنسان حرية كاملة فى الإيمان أو عدم الإيمان به جل وعلا: «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» لم يكن ليحرمه من حرية التعامل مع ما نص عليه القرآن من أحكام، وتطويعها بما يخدم الحياة وإعمار الأرض.