لأننى من الجيل سعيد الحظ، الذى عاش المشاعر الجميلة فى مختلف مراحله العمرية على صوت الإذاعة المصرية، التى خرجت من عباءتها جميع الإذاعات العربية، وعلى أيدى عمالقتها الإذاعيين تعلم وتدرب وما زالوا حتى الآن شباب المبدعين من الدول العربية والأفريقية، فما زلت أذكر تلك الدعوة الجميلة من أبى عندما اصطحبنى إلى ماسبيرو لأرى من أين يخرج صوت الراديو ونشاهد التليفزيون بعد أن فوجئ بى وأنا أحاول أن أبحث عن المذيعة التى يخرج صوتها وأين تجلس داخل هذا الجهاز السحرى الذى أبهر جيلنا وهؤلاء الأشخاص الذين يتحركون أمامنا ويشاركوننا الحياة بالضغط عَلى زر صغير. ولم يكتف بذلك والدى بل وزّرت معه أيضاً المبنى القديم للإذاعة فى شارع الشريفين الذى انطلق منه لأول مرة صوت أشهر المذيعين العرب أحمد سالم فى٣١ مايو عام ١٩٣٤ بكلمة «هنا القاهرة»، ليعلن ميلاد الإذاعة المصرية.
وعندما عرفت السر الذى شغل طفولتى، ازداد شغفى وعشقى للاستماع للإذاعة.
وكان من أجمل الأصوات التى يستمع إليه المصريون صوت آمال فهمى فى برنامجها «على الناصية»، فهى صاحبة الصوت الذهبى الرشيق الشاب المثقف الغنى المتحمس والمحب، ولا عجب فى ذلك أو فى تلك الأوصاف، لأن أصواتنا ومخارج كلماتنا تعبر عن شخصياتنا وعقولنا وثقافاتنا، وآمال فهمى أطلق عليها الإذاعيون «أوفيليا الإذاعة المصرية»، حيث لعبت دور «أوفيليا» بطلة مسرحية هاملت على مسرح الجامعة، وحصلت وقتها على الميدالية الذهبية، فأطلق عليها زملاؤها بعد انضمامها للإذاعة وانطلاق صوتها الذهبى عبر الأثير هذا اللقب إعجاباً.
ولآمال فهمى قصة حب مع الإذاعة، عندما كانت طفلة فى السادسة من عمرها واشتركت فى برنامج الأطفال «أبلة زوزو» عام ١٩٣١ وغنت مع المجموعة «قطتى صغيرة واسمها منيرة»، حيث تمنت أن تعود مرة أخرى وأن تقف أمام الميكروفون وظل الحلم مسيطراً عليها حتى تخرجت فى جامعة القاهرة، كلية الآداب، وتحقق لها ما تمنت.
وإذا كنا نعرف آمال فهمى بالبرنامج الذى دخل موسوعة جينيس للأرقام، حيث استمر لمدة خمسين عاماً يذاع أسبوعياً فى موعده «على الناصية» إلا أن السياسة تدخلت لوقف البرنامج لمدة ٨ سنوات عندما استضافت مذيعته أحد المواطنين من محافظة الشرقية، قرية «شبين الكنارية»، واشتكى أن الكهرباء تخطت القرية إلى أخرى «بهبناى» لأنها مسقط رأس على صبرى، نائب الرئيس جمال عبدالناصر. فتم إيقاف البرنامج هذه الفترة الطويلة لأن آمال فهمى فشلت فى الوصول للرئيس لتشكو له ما فعلته بها السياسة، وقد ظل على الناصية مقترناً بآمال فهمى رغم أنه كان فى البداية فكرة الإذاعى أحمد طاهر وكانت الحلقة التى شاركت فيها آمال فهمى عبدالحليم حافظ أغنيته الشهيرة (باحلم بيك) ضمن أحداث فيلم (حكاية حب) عام ١٩٥٩ من أشهر حلقاته، ومن الطريف أنه عندما سألت «ملكة الكلام» وهو أحد الألقاب التى حصلت عليه بطلة هذا المقال عن أجرها جراء اشتراكها فى هذه اللقطة قالت: «زجاجة عطر فرنسية» أرسلها لى عبدالحليم وأسعدتنى.
وقد لعب هذا البرنامج دوراً أساسياً فى نجاح آمال فهمى وشهرتها، حيث اعتادت أن تناقش أهم قضايا المجتمع من خلاله، ولم تتناول القضايا المصرية فقط، بل والعربية فكانت أول مذيعة تجرى حواراً مع أحد الجنود الجزائريين من وسط ميدان المعركة أثناء الاحتلال الفرنسى للجزائر، كما شاركت فى الدعوة لتغيير قانون الأحوال الشخصية بالعشرات من اللقاءات، وكذلك حملة تنظيم الأسرة وجمع التبرعات لعلاج الفقراء ولمعهد القلب، كما كانت أول مذيعة تدعو د. مجدى يعقوب لإجراء جراحات مجانية للأطفال، ومن أشهر الشخصيات التى استضافتها رائد الفضاء الروسى جاجارين، ود. أحمد زويل قبل حصوله على جائزة نوبل بـ١٤ عاماً، ومن أجمل ما كان يتضمنه برنامج «على الناصية» السؤال الأخير للضيف: «تحب تسمع إيه» ليعقب كل لقاء أغنية قصيرة. ولم تنل أيقونة الإذاعة المصرية شهرتها بهذا البرنامج فقط، ففى عام ١٩٥٥ استمع المصريون وعرفوا لأول مرة فوازير رمضان بصوتها فى ٣٠ حلقة كتبها الشاعر بيرم التونسى ومن بعده قام بكتابها صلاح جاهين واستمرت فى نجاح وشهرة ومتعة المصريين وكانت رسائل المستمعين الذين يريدون حل الفوازير الرمضانية تتسبب فى مشكلة كبيرة لهيئة البريد، حيث وصل عدد الخطابات فى أحد الأعوام لمليون خطاب، فقدم مدير الهيئة شكوى إلى مجلس الوزراء بسبب الضغط على الهيئة، وعرقلة عملها بخطابات الفوازير.
وبعيداً عن موسوعة جينيس كان للصوت الذهبى العديد من البرامج الناجحة، فقد قدمت «هذه ليلتى»، حيث استضافت من خلاله المشاهير من الكتاب والفنانين والسياسيين و«حول العالم»، الذى أسعدت المصريين من خلاله بتسجيلات نادرة للزعماء، ومنها هتلر ونهرو وقدمت برنامج «فى خدمتك»، الذى كانت تساعد من خلاله فى حل مشاكل المواطنين.
والآن تعيش ملكة الكلام، وأوفيليا الإذاعة المصرية وأيقونتها بمستشفى المعادى العسكرى على نيل مصر الذى أحبته وقدمت له حياتها لتتلقى العلاج والرعاية الإنسانية، لأنه لا يوجد لها أقارب على قيد الحياة. فهل يمكن أن نشارك فى رعايتها بوردة أو كلمة حب أو أمنية بالشفاء. أسعدوا من أسعدتنا، متعكم الله بالصحة والعافية.