فقدت مصر مساء الخميس الماضى قيمة فكرية وثقافية نادراً ما يجود الزمان بمثلها، فقدت د. رفعت السعيد، الذى أثرى الحياة السياسية والفكرية والثقافية فى البلاد، كان ناشطاً سياسياً منذ نعومة أظفاره، وكان صاحب رؤية سياسية ثاقبة، اعتنق الفكر الاشتراكى، واعتبره منقذ شعوب العالم الثالث التى ينتمى إليها، بل رآه ضرورة إنسانية، قبل أن يكون مجرد نظرية سياسية، درس التاريخ، وبات على قمة مؤرخى مصر دون ادعاء، آمن منذ نعومة أظفاره بالدولة المدنية الحديثة، بمصر دولة عصرية، بدولة القانون والمواطنة، تصدّر وحزبه، التجمع، مسيرة الدفاع عن الوحدة الوطنية بين المصريين، ودافع عن حقوق جميع المصريين من أرضية المواطنة الكاملة غير المنقوصة، كان من القلائل الذين كسبوا ثقة البابا شنودة الثالث، خاض مغامرة خطرة لزيارته فى دير الأنبا بيشوى بوادى النطرون أيام «السادات»، والأخير كان يمكن أن يُنكل بأى شخص يمكن أن يحاول الاتصال بالبابا المغضوب عليه من «السادات». ظلت هذه الثقة قائمة وتحولت إلى صداقة شخصية، بحيث أصبح د. رفعت السعيد هو الوسيط الوحيد المقبول من البابا شنودة فى العلاقة مع الرئيس مبارك وأجهزة الدولة المختلفة، صارت صداقة نادرة بين رأس الكنيسة الأرثوذكسية المصرية وسياسى بارع ومثقف رفيع وزعيم حزب سياسى يسارى، الصداقة تجاوزت قصة الدين إلى الإنسانية، فصارت علاقة حب وود متبادَل كما رواها لى الراحل د. رفعت السعيد. وثق البابا فى رفعت السعيد، فكان يُسر له بكل ما فى فكره وباله وقلبه وعقله، وكان «السعيد» أميناً فى النصيحة مخلصاً فى الرأى، كاتماً للسر.
أيضاً يُحسب للمناضل الراحل شجاعته منقطعة النظير فى معركة التنوير فى البلاد، ونضاله المتواصل مع الجماعات الإسلامية المتشدّدة، وهو صاحب توصيف هذه الجماعات باعتبارها جماعات متأسلمة، وليست جماعات إسلامية، على أساس أنها لا تمثل الإسلام، بل توظفه وتستخدمه من أجل أغراض ومصالح دنيوية.
ظل رفعت السعيد حتى النفس الأخير يخوض معارك التنوير والمواطنة ويدافع عن حقوق المصريين جميعاً بصرف النظر عن العرق أو اللغة أو الدين أو الطائفة أو الجنس أى الجندر، ورغم تقدّمه فى العمر واعتلال الصحة لم تفتر عزيمته مطلقاً فى خوض هذه المعارك، فكان يكتب فى «الأهرام» و«الوطن»، والأخيرة فتحت له أبوابها لنشر ما حُجب نشره فى صحف حكومية، وتحديداً فى «الأهرام».
وداعاً د. رفعت السعيد، ونصلى إلى الله أن يتغمّده برحمته، ويسكنه فسيح جناته، فقد كان إنساناً مصرياً، مثقفاً بارزاً، من طراز رفيع، وقبل كل ذلك كان إنساناً رائعاً، فقد كان مصرياً مؤمناً ببصيرته، ومعتزاً بجذوره المصرية العريقة.
رحم الله د. رفعت السعيد وألهم أسرته وأصدقاءه وتلاميذه الصبر والسلوان.