عندما دخلت كلية الطب كانت السنة الأولى هى التى شهدت فيها آخر آثار اليساريين فى الكلية، وقرأت لهم فيها آخر مجلة حائط قبل أن تحتل الجدران وقاعات المحاضرات واتحاد الطلبة وأمخاخهم جماعات تتار الإخوان، فى تلك الفترة تعرفت على كتب د. رفعت السعيد وكانت الملجأ والملاذ وحل شفرة تلك الجماعات التى كنا نكتوى بنارها كطلبة، ولكننا لم نكن نفهم لماذا ظهرت وكيف وهل هى نبت شيطانى وما هو سر انتشار ذلك التيار السلفى بهذه الطريقة السرطانية فى نخاع المجتمع المصرى؟ أحببت من خلال رفعت السعيد قراءة التاريخ، خاصة التاريخ المعاصر، عرفت منه ليبرالية وعلمانية النحاس وتاريخ كفاح اليسار، وكان المبهر والكاشف بالنسبة لى هو كتابه عن حسن البنا فى وقت كانت الدراسات عن تنظيم الإخوان شحيحة ونادرة، ودارت الأيام وكتبت وأنا طالب فى جريدة الأهالى وذهبت لتسليم مقالى المتواضع الذى كنت أحمله بمنتهى الحرص وكأنى أحمل الإلياذة!! وهو مجرد كلام ساخر فى صفحة أسسها الكاتب الكبير صلاح عيسى اسمها الإهبارية، لكن الأستاذ صلاح ود. رفعت استقبلانى وشجعانى وأيضاً منحانى بعض النصائح الثمينة التى ظلت معى حتى هذه اللحظة، علمنى رفعت السعيد أن التاريخ ليس أجندة تليفونات تتلى فيها أسماء القادة والمعارك، بل هى حياة وتفاصيل تشارك فيها كافة الطبقات من الحرافيش إلى المساتير إلى الأثرياء، التاريخ ليس معادلة حسابية جمع وطرح بل هو تفاعل كيميائى، التاريخ لا يصنعه الساسة المشاهير فقط بل هناك كثير من المغمورين المغفل ذكرهم عمداً أو سهواً يصنعونه، التاريخ ليس مصدره كتب ومجلدات الأكاديميات والتراث فقط بل النكت مصدر تاريخى وصفحة الوفيات مصدر تاريخى والمواويل والأغانى وحتى «العديد» من الممكن أن تستفيد منها تاريخياً، هاجمه الكثير واتهموه بتدمير اليسار وتدجينه.. إلخ، لكنى أعتقد أنه فهم لعبة الممكن فى السياسة لكن ظل اقتناعه الأيديولوجى راسخاً وانتماءاته اليسارية فى قضية «العدل» الاجتماعى واضحة، وهكذا السياسة لا بد أن تصيب صاحبها دائماً برذاذ التجريس، ويظل موقف رفعت السعيد من حركات الإسلام السياسى التى صك مصطلح التأسلم السياسى لوصفها هو من أصلب المواقف وأوضحها، لم يتلون أو يمسك العصا من المنتصف أبداً، لم يهادنهم حتى فى عز سطوتهم بعد ٢٠١١، وترك كتباً ومقالات تشرحهم وتحللهم ستظل من أعظم المصادر التى يمكن أن تدرس من خلالها الإخوان وحيلهم وألاعيبهم وأكاذيبهم وجرائمهم، مصادر ثرية ودقيقة وبليغة أيضاً، فهو قد كان مؤرخاً بروح الروائى، وصياغته اللغوية من أجمل الصياغات التى قرأتها لرجل سياسى حزبى.
سنفتقد جسارة ورؤية وعقلانية رفعت السعيد، لكن ما يعزينا هى كلماته عن أن اليأس صار ترفاً لا نتحمله وأن النور مقبل لا محالة.