بين الحين والآخر تكتسب «منطقة» من تلك المتناثرة على خريطة الوطن «شهرة واسعة» لتنافس «ميدان التحرير الأشهر»، بعد أن كانت هذه المنطقة «مجهولة» تماماً للعامة عدا ساكنيها..!
«خورشيد.. فوكه» وقبلهما العشرات من تلك المناطق التى انطلقت شهرتها الواسعة، لا لشىء إلا لأنها كانت «مسرحاً لدراما مُبكية» تزرع دوماً تعبير «كان» قبل أسماء عشرات بل مئات من الضحايا بسبب تمرد «قطارات السكك الحديدية» على قضبانها اعتراضاً على «سوء إدارة» هذا المرفق الحيوى الذى أصبح «أقصر الطرق» للانتقال إلى الآخرة..!
فوفق سيناريو رتيب وممل يُفاجأ المواطنون بصدام قطارين.. أو خروج أحدهما عن القضبان.. أو تشتعل النيران فى آخر.. أو تعلن فرامل رابع «الإضراب عن العمل» لتنتهى القصة بإيداع السائق أو عامل «السيمافور» خلف القضبان، ويقيل وزير النقل بعدها رئيس الهيئة وعدداً من قياداتها من مناصبهم قبل أن يقدم هو ذاته «استقالته» أو «يُقال» دون أن نواجه أنفسنا بحقيقة المشكلة، انتظاراً لكارثة مقبلة بعد شهور قليلة.. وهكذا..!
أعلم أن الكلمات السابقة «صادمة» لهؤلاء الذين يحلو لهم إغماض أعينهم عن الواقع وحتمية مواجهته بكل الحسم، فربما تمر الجريمة دون حتى أن «يُخدش» من هم حريصون على حمايته باعتباره من أصحاب النفوذ..!!
الفارق فى حادث «خورشيد» بالإسكندرية عن غيره من الحوادث السابقة أن 3 حوادث متتالية لحقت به فى أقل من 5 أيام دون أن تترك للرأى العام الفرصة لاستعادة «الهدوء»..!.. «تعطل فرامل أحدها واشتعال النيران فى جرارين آخرين» وهو ما كان سيضيف المزيد من الضحايا لولا ستر الله سبحانه وتعالى.
الغريب أيضاً فى نتائج الحادث الأخير «خورشيد» أنه خرج عن ذات السيناريو الذى اعتدناه عقب كل حادث مماثل، إذ إن وزير النقل قد «تقمص شخصية جدتى» التى كانت تؤمن بالمثل الشعبى الشهير «الباب اللى يجيلك منه الريح سده واستريح»، وأعلن بجرأة يحسد عليها «إلغاء عدد من القطارات التى تشكل خطورة على أرواح المواطنين» دون أن يحاول علاج المشكلة، وهو المنطق الذى يمكن تكراره فى كثير من المجالات إذ إننا نفاجأ بانهيار عدد من المنازل كل فترة فيمكن وقتها لوزير الإسكان إصدار قرار بحظر بناء العمارات.. وربما يصدر وزير الطيران قراراً مماثلاً بإلغاء رحلات الطيران والاكتفاء بالسفر «على الجمال» إذا ما سقطت طائرة لا قدر الله..!
على الجانب الإنسانى للمأساة فإن «رغدة».. أو «مارى» أو أى طفلة أخرى فى مثل عمرهما ممن فقدت والدها فى الحادث قد عرفت أن للإهمال معنى آخر غير «السقوط فى امتحان الحساب» كما كان يقول لها.. وأدركت أن للإهمال معنى قاسياً حرمها من فستان العيد.. ومن نصف كيلو تفاح كما وعدها.. ومن قروش المصروف اليومى.. ومن الاتفاق مع الأستاذ «فوزى» مدرس العربى على الدرس الخصوصى!!
وتعلم «أحمد» أو «بيشوى» أو غيرهما أن فعل «قُتل» فعل ماضٍ مبنى -ليس كما تقول قواعد الصرف والنحو- للمجهول، إنما للمعلوم.. والمعلوم هنا ضمير «غائب» دائماً بعد أن أوكل عنه الإهمال والتسيب والفساد فى إتمام المهمة..!
وأيقن أطفال عديدون أن للإهمال ثمناً يجب أن يسددوه على الرغم من أنهم لم يكونوا أحد شخوصه بل على العكس كانوا من بين ضحاياه!
معانٍ كثيرة تزاحمت فى أذهان الصغار عندما صحبهم من تبقى من عائلاتهم إلى «المشرحة» ليتعرفوا على أسماء أصحاب الأشلاء الملقاة هناك فربما تكون «بقايا بابا» من بينها!!.. فقد كان من بين ركاب قطارَى «خورشيد» اللذين أطبقت جدران عرباتهما على 41 «بابا أو ماما» آخرين كانوا معه فى القطار وربما فى الدرجة الثالثة التى اعتادوا عليها عند السفر بالقطار، وفى حياتهم بالدنيا فالحكومة تعاملهم وأمثالهم على أنهم من مواطنى هذه الدرجة دائماً «الثالثة»!!
تيتم عشرات الأطفال وترملت أمهاتهم وحُرموا جميعاً من رؤية الأب والعائل، كما سبق أن حرمت عشرات من الأسر قبل عدة أعوام من عائلها وقت أن شويت أجساد غلابة آخرين فى قطار الصعيد، ولحق بهم مئات الضحايا فى حوادث متلاحقة بسبب جنون قطارات جرى إهمالها لعشرات السنين، بعد أن كان التاريخ قد أقر أنها كانت الثانية فى العالم إلا أنها قد خرجت من القائمة ولم تعد للآن.
أوراق كثيرة ستبصم أم «رغدة أو ميرى» عليها بأصبع إبهامها الأيمن لتبدأ بعدها جولة مثيرة مرهقة على مكاتب المسئولين قد تستغرق شهوراً على الرغم من أن هؤلاء المسئولين لم يغفلوا لحظتها التأكيد على تعبير «صرف التعويض والمعاش على الفور»، وهو التعبير الذى تستظل به دائماً صورهم فى الصحف عقب كل حادث لتتلقى فى النهاية بضعة جنيهات تمثل ثمناً لمن راح ضحية الإهمال.. لمن لا ثمن لحياته..!!
أجزم بأن فى عقل كل «رغدة» مجرد أمنية.. وعلى لسانها مجرد دعاء بأن ترى وجه أبيها مرة أخرى ولو لثوانٍ معدودة.. يا سادة فلنعترف بحقيقة أن «قيادات الهيئة ومسئوليها» ممن تولوا قيادتها غير قادرين على إدارة هذا المرفق، ولنستعِن بشركة قادرة على إدارته وتُخضع كل من ينتمى لها لدورات تدريبية مكثفة قبل أن تنطلق القطارات دون ركاب بعد أن ينتقلوا جميعاً إلى الآخرة..!!