لم يفاجئنى رد فعل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فيما يتعلق بأحداث مدينة شارلوتسفيل بولاية فرجينيا منذ عدة أيام، فالرجل منذ حملته الانتخابية كان واضحاً وضوح الشمس فيما يؤمن به من أفكار اليمين المتطرف، الذى دعمه ومنحه صوته، وكان حاضراً بقوة فى مشهد انتخابه، مؤيداً للغة خطاب اتسمت بالعنصرية ضد بعض الأجناس والعقائد، وهو أمر ليس بوليد المصادفة فى السياسة الدولية وليس بغافل عن صناع القرار فى الإدارة الأمريكية.
ولكن ما حدث فى ولاية فيرجينيا من مظاهرات بين ما يطلقون عليهم النازيين الجدد، أو اليمين المتطرف وبين المعارضين لهذا الفكر يرسم ملامح صورة قديمة تتجدد تؤكد أن هناك ما هو أعلى من السياسة الأمريكية فى تحريك المشاهد والمشاركين فى صنعها، فالمدينة التى استيقظت يوم 11 أغسطس الماضى على مواجهات بين مؤيد ومعارض للفكر اليمينى الذى تقدمه جماعة «كوكلاكس كلان» -التى تؤمن بتفوق البيض على غيرهم من البشر- لم تكن تدرك أن ما أعلنه المسئولون فيها من تخطيط لإزالة تمثال روبرت لى -قائد قوات التحالف الجنوبى فى الحرب الأهلية الأمريكية، الذى هُزم عام 1865 فى معاركه مع الشمال- سوف تؤجج هذا العنف فى المدينة، لينتهى الأمر بمقتل مواطنة أمريكية وإصابة العشرات إلى حد إعلان حاكم فيرجينيا حالة الطوارئ.
ربما لا تتجاوز أعداد اليمين المتطرف فى الولايات المتحدة الأمريكية نسبة الـ5% من واقع تعداد سكان يقدر بنحو 323 مليون نسمة، كما ذكرت التقارير الإخبارية المعلقة على الحدث، التى ذكرت أن تلك النسبة تزايدت فى فترة الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، ولكن من قال إن فكر النازى كان يؤمن به أغلبية الألمان؟ ومن ذكر أن فكر موسولينى كان مكتسحاً فى إيطاليا؟ ومن قال إن الإخوان كان لهم الأغلبية فى مصر؟ ومن قال إن الصهاينة كانوا الأكثرية ليحتلوا فلسطين؟ وغيرها من كل الأفكار الشاذة التى انطلقت فى العالم منذ قديم بشكل يؤكد وجود تخطيط مدروس للصراعات فى العالم بشكل يفوق ما نراه على السطح فيها. حرّكت أحداث مدينة شارلوتسفيل النار، التى تبدو خامدة فيما يتعلق بالفكر اليمينى الكامن تحت الرماد فى الغرب الذى ظن أنه قضى عليه بنهاية الحرب العالمية الثانية، بل وسعى لمقاومته خوفاً من تكرار مآسيه، فحوادث العنف والتمييز العنصرى لم تتوقف فى الولايات المتحدة كما لم تتوقف نهائياً فى أوروبا، فبين الحين والآخر تطالعنا الأخبار بمقتل ملونين أو مجموعة من السود على يد عنصريين بيض، كما أن أوروبا لم تنس حادثة «بريفيك»، ذلك الشاب النرويجى الذى قتل فى عام 2011 نحو 74 شخصاً فى بلاده الهادئة المشتهرة بالهدوء، ليكتشفوا فيما بعد إيمانه بالفكر اليمينى المتطرف الرافض للفكر اليسارى وللمسلمين وغيرهم. إلا أن تلك الأحداث الأخيرة فى مدينة شارلوتسفيل تختلف فى رسائلها ومعانيها وأهميتها فى ظل تبنى الرئيس الأمريكى لتلك اللغة التحريضية منذ فترة ترشحه فى الانتخابات، كما أنه أثار الغضب بتصريحاته عنها حينما اتهم كلاً من الطرفين -اليمين المتطرف والمعارضين لهم- بالمسئولية عن أحداث العنف. إذ رفض غالبية النخبة الأمريكية تلك التصريحات، مؤكدين رفضهم للفكر العنصرى وتفوق الجنس الأبيض. ولم يتوقف الأمر عن حد الرفض، ولكنه امتد إلى اعتذار عدد من المثقفين والفنانين عن عدم حضور فعالية ثقافية مهمة فى واشنطن ينظمها مركز كينيدى سنوياً تجنباً للوجود مع «ترامب»، الذى أعلن عن اعتذاره هو الآخر عن عدم حضورها.
ويطرح السؤال نفسه: إذا كان وصول دونالد ترامب لحكم الولايات المتحدة الأمريكية إيذاناً بوصول اليمين المتطرف للحكم فى القوة الأولى فى العالم، فهل يعنى هذا أن أمريكا قد بدأت طريقها نحو تصعيد هذا الفكر الذى يخشى الغرب سيطرته وتمدده، وهو ما اتضح بقوة فى انتخابات فرنسا؟ أم أن أزمة شارلوتسفيل مجرد مشهد من مشاهد الصراع المنتظر بين كل مناحى الفكر المتطرف فى العالم، سواء كان يمينياً أو تكفيرياً؟