سأختلف معكم جميعاً أحبائى وأقول إن الانتظار إحساس جميل وممتع ولا يدرك ذلك إلا من عاشه بخلجات نفسه كاملة غير منقوصة. فانتظارك للقاء حبيب غائب أو مناسبة جميلة والاستعداد لها بطقوس خاصة بك وحدك، أو انتظار الأم لأول حركة من طفلها داخل رحمها لتؤكد لها وجوده وميلاده وأول نظرة لها وضمه لصدرها أو انتظار العروس لليلة زفافها وارتدائها ثوب عمرها الأبيض، والطالب المقاتل الشاب انتظاره للحظة ارتدائه لأول مرة رتبته العسكرية والفرحة على وجه أمه وأبيه، وانتظار الأسرة كلها لعودة الغائب على صوت أزيز الطائرات وإعلانات الوصول بجميع لغات العالم داخل المطارات، وحتى انتظار أغنية تحبها وتندمج معها، أو وجبة طعام لذيذة تعدها لك زوجتك.. كل هذا الانتظار أروع بكثير من لحظة الحدث نفسه. وللانتظار معانٍ وقصص جميلة وغريبة وأغنيات وأشعار وأمثال شعبية. ولنبدأ من مصر أم الدنيا ففى عام ١٩٤٣ كتب المبدع بيرم التونسى كلمات (أنا فى انتظارك) ولحنها زكريا أحمد لتشدو بها أم كلثوم ولتظل حتى الآن من أروع ما غنت على الإطلاق واستمع إليها العالم العربى كله من أقصاه إلى أدناه وأصبح للحق من صفاتنا نحن العرب أكثر من أى شعب فى العالم الانتظار، واستعذبناه فى الحب والحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى تأكد حكامنا على مر العصور أننا سننتظر وسننتظر ففعلوا بِنَا ما أرادوا وما زالوا مستمرين حتى الآن.
وفى المفاهيم الفلسفية يقولون عن الانتظار إنه عقيدة فطرية يولد بها الإنسان وإنه من المعانى الاسمية التى لها تحقق ووجود فى عالم الواقع الخارجى إلا أن الانتظار لا يمكن أن يتحقق طبقاً لعلماء الفلسفة دون وجود المنتظر والمنتظر (الأولى بفتح الظاء والثانية بكسرها).
وبالنسبة لعلم النفس فالانتظار حالة توجدها النفس وتتأثر بالزمن ويتوق لها الشغف لمعرفة الحاصل.. فهو الفرج.. وهو الرجاء، وفى نفس الوقت هو سر يكشف حقيقة النفس والإيمان بالله وبقضائه وقدره، وعادة فإنه إما يقابل بالرفض أو بالصبر، ومن هنا تختلف رؤية الناس عن أصعب انتظار وفقاً لاهتماماتهم ونظرتهم الشخصية.
ولمن لا يعلم فإن وجودنا الإنسانى مؤسس على مفهوم الانتظار، فلا يوجد أحد منا لا ينتظر، وإذا كان هو الأمل فى بعض الأحيان فهو الكسل والتأمل فى أحايين أخرى، وربما وربما، وفى كثير من الأحيان لا نشعر بأننا ننتظر ونرفض الاعتراف بذلك وكأنها تهمة والحقيقة أننا جميعاً نفعل رغم أنوفنا.
ومن الحقائق التى لا جدال فيها والتى نعيشها ما يقوله لنا رجال الدين «انتظروا آجالكم، وانتظروا يوم حسابكم»، وبالتالى فإن الفهم الذهنى لهذه العبارة قد يبدو فاعلاً فى حياة كل فرد حتى فى القضاء والقدر اللذين وردا كثيراً فى كتب رجال الدين والفلاسفة ما هما إلا الانتظار. ومن خلال ذلك نعرف أن الانتظار هو المستقبل وهو اللاماضى، وفى نفس الوقت هو اللاحاضر. الماضى هو ما تم بالفعل انتظاره وتجاوزه، والحاضر هو ما قيد الانتظار دون أن نشعر به، والمستقبل هو الانتظار بعينه، ولذلك فهو مجهول ومتغير تبعاً لحوادث مجهولة تتلاعب به، وبالتالى فهو مصيرنا.
وعودة للشعر والغناء والأمثال والحكم عن الصبر فهناك مثل فارسى قديم يقول: (السعادة الوحيدة تقوم على انتظار السعادة)، وقال عائض القرنى: (لأهل السنة عند المصائب ثلاثة فنون الصبر والدعاء وانتظار الفرج)، ومن الحكم العربية القديمة (لا تضيع ما هو ممكن فى انتظار ما هو مستحيل)، أما إبراهيم نصر الله فله رأى آخر حيث يقول: (كل ما يفعله الانتظار هو مراكمة الصدأ فوق أجسادنا)، بينما يقول الطيب الصالح: (الْيَوْمَ هنا شىء لا قيمة له مجرد عذاب يتعذبه الكائن الحى فى انتظار الليل)، أما محمود درويش فقد كتب: (أجمل ما فى الصدفة أنها خالية من الانتظار)، ويصفه نجيب محفوظ فيقول: (الانتظار شعور مؤرق ولا شفاء منه إلا ببلسم الخلود). ويؤكد ألكساندرا دوما نفس المعنى حين يقول: (تتلخص حكمة الإنسان فى كلمتين الانتظار والأمل)، ويتحدث عنه جبران خليل جبران: (إننا إنما نعيش لنهتدى إلى الجمال وكل ما عدا ذلك هو لون من ألوان الانتظار).
وبطبيعة الحال فإن الشعراء أكثر الناس إحساساً بجمال الانتظار وعذابه بل وضرورته، فقد كتب نزار قبانى قصيدة (سئمت الانتظار ولعبتى مع النار)، وأبدع إبراهيم ناجى فى قصيدة لحنها رياض السنباطى وغنتها سعاد محمد منحها اسم انتظار ويقول فى مطلعها: (أنا فى بعدك مفقود الهوى ضائع أهفو إلى نور كريم)، وشدت فيروز بكلمات الأخوين رحبانى وموسيقاهما: (أحترف الحزن والانتظار أراقب الآتى ولا يأتى)، أما الفنان العراقى حميد منصور فله أغنية من التراث العراقى تقول: (انتظرتك حتى مل الانتظار وقالوا الناس العمر فاته القطار).
أما أنا فأنتظر لقاءكم كل أسبوع مع كلماتى، وأنتظر بحب وشغف وسعادة آراءكم، وأنتظر أيضاً الفكرة الجديدة لمقالى المقبل، لكم أحبائى وأصدقائى كل ذلك على موسيقى وكلمات (أنا فى انتظارك) وصوت كوكب الشرق أم كلثوم.