كان للحياة مذاق عذب خلقت من قسوة الأيام وشقائها أيقونة إبداع وقيثارة حب تعزف أوجاع كسيرى القلب من الكادحين والمسحوقين المغموسين فى الشقاء، كانت الأحلام متسارعة كنبضات القلب العاشق، كأنها تسابق الزمن كى لا تترك شيئاً للصدفة أو للحظة غدر، كان فضاء الخيال رحباً محلقاً فى سماء الأمل، وكانت الضحكة المجلجلة النابضة تخرج من القلب الموجوع تزلزل شوارع المدينة فتتراقص طرباً وتتمايل شغفاً مع كل قصيدة تنحتها مشاعره الجياشة التى تخرج من روح التصقت بملح الأرض وامتزجت بعبيرها الفواح، هكذا كانت تبدو ملامح مدينة الناصرة التى كانت تسكنه ويسكنها فى عنفوان عطائه، لكنها سرعان ما أظلمت بعد إعلان الغياب فى غفلة منا، وأطفئت أنوار البهجة والبريق الغامض الذى يميز حضورها ولبست ثوب الحداد فى التاسع عشر من شهر أغسطس عام 2014.
فى ذكرى الرحيل الثالثة للشاعر الفلسطينى سميح القاسم، فارس الكلمة، فقدت الأبجدية رونقها وأناقتها، بعد أن كانت تتلألأ فى فضاءات إبداعاته الشعرية والنثرية، يخطها بمداد جروحه التى أدماها وطن أسير، سميح القاسم أطل علينا وعرفناه من خلال أشعاره الثائرة المتمردة لكنها مليئة بالتفاؤل والأمل، احتل مكانة بارزة فى شعر المقاومة الفلسطينية والشعر العربى المعاصر، فكان شاعر الثورة والغضب، وشاعر الحب والجمال، وشاعر القضية والشعب، كرس حياته لقضية شعبه المحتل والقضايا الإنسانية، وشكلت تجربته الشعرية إضافة متكاملة لشعر المقاومة فى مرحلة ما بعد النكبة إلى جانب عمالقة الأدب والشعر الفلسطينى توفيق زياد ومحمود درويش شقه الآخر من البرتقالة الفلسطينية كما وصفهما الكاتب المخضرم الراحل أميل حبيبى، فكرس قصيدة المقاومة التى خطها بحروف روحه ونبضات قلبه العاشق لتراب فلسطين فى الأدبيات النقدية والإبداعية كإحدى ركائز النضال الوطنى الفلسطينى، سجن «القاسم» أكثر من مرة، ووضع رهن الإقامة الجبرية لمواقفه المعارضة لحكومة الاحتلال الإسرائيلى، وتعرض للكثير من المضايقات والملاحقة بسبب قصائده الشعرية ومنها قصيدته الشهيرة (تقدموا) التى اعتبرت تحريضاً ضد السلطات الإسرائيلية وتسببت فى أزمة داخل إسرائيل بعد تحولها إلى ما يشبه البيان الشعرى السياسى، وكان من الأوائل الذين رفضوا وقاوموا التجنيد الذى فرضته إسرائيل على الطائفة الدرزية التى ينتمى إليها. لغته الشعرية الثائرة أجبرتنا على تجرع الألم دون الإحساس بمرارته، فقد كانت كلماته نواصى أمل تغذى الروح وتؤازر النفس وتشحذ الهمم، تلهمنا ثبات اليقين بأن هناك غداً أفضل، وأن الاحتلال إلى زوال مهما طال ومهما استمر جاثماً على صدورنا مغتصباً لأحلامنا.
غادر جسد الفارس سميح القاسم غير أن أشعاره لم تغادرنا، فقد شكلت لغة مجبولة بالتحدى زرعت روح المقاومة والتصدى للاحتلال الاستيطانى الإسرائيلى الغاصب، ليترك إرثاً شعرياً ونثرياً غنياً ومواقف صلبة حفرت عميقاً فى الوجدان الفلسطينى، شكلت تجربته علامة فارقة فى مسيرة الثقافة الفلسطينية بما تحمله من معانى الصمود والإرادة والمقاومة بالثقافة، فصاحب «منتصب القامة أمشى» لطالما أكد أن «وطنه ليس حقيبة سفر وأنه ليس مسافراً». استطاع أن يحرك بشعره ولا يزال أجيالاً وأجيالاً بالإصرار على الحق الفلسطينى فى مواجهة المحتل الغاصب لتصبح أبجدية سميح القاسم وطناً فى قصيدة وأغنية نستحضر منها أحلامنا الكبرى عن الحرية ونستمد من قوتها وثرائها شعاعاً ملهماً فى الأدب والحياة والمقاومة، شكلت قصائده علامة بارزة فى الشعر الحديث وحضوراً مميزاً فى الثقافة الفلسطينية والعربية، فقدرة سميح القاسم الإبداعية وتميزه الشعرى جعله فى مقدمة القامات الأدبية التى اتخذت من الأرض والإنسان شعاراً للحياة وعنواناً لنضال الثقافة، بتثبيت الرواية الفلسطينية والإبداع الفلسطينى أمام كل محاولات الطمس والإبادة الثقافية والتهجير والاقتلاع.
أراد «القاسم» تحرير العقل العربى بالوعى والثقافة والإنسانية، وأراد لشعبه المحتل أن يقاوم بالأمل ويتسلح بالإيمان، مسيرته الإبداعية جعلت من فلسطين مساحة لنضال إنسانى يتجاوز سياسات عزل الجغرافيا عن محيطها وعمقها الثقافى، فكان من بين ما خطه من أقوال مأثورة ذات المغزى وذات المآل: «النظام الديكتاتورى قد يبنى التماثيل فى الوطن، لكنه يهدم الإنسان فى المواطن». «أتسألنى كيف حالى وأنت جواب السؤال!». ورغم ذلك لم يفقد إيمانه بأن شمس الغد ستشرق مهما طال الظلام «رغم الشك ورغم الأحزان، أسمع.. أسمع.. وقع خطى الفجر! رغم الشك ورغم الأحزان، لن أعدم إيمانى فى أن الشمس ستشرق، شمس الإنسان، ناشرة ألوية النصر، ناشرة ما تحمل من شوق وأمان». وعندما قرر الرحيل كان «أشد من الماء حزناً» فى ظل الإعصار الذى ضرب نسيج الوطن العربى ووعيه وثقافته وسلامه وأمانه فى مقتل.