قلنا فى المقال السابق إن خطط «صناعة الدولة الفاشلة» تنتهج العديد من الوسائل والآليات، والتى تختلف من دولة إلى أخرى بحسب الظروف السياسية والاقتصادية وشكل التركيبة السكانية للمجتمع وخريطة الجغرافيا السياسية. وإذا كانت الدولة فى فقه القانون الدستورى تتكون من ثلاثة عناصر، هى: الشعب، الإقليم، والسيادة أو الحكومة، فإن كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة يمكن أن يكون موضوعاً أو محلاً لمخططات صناعة الدولة الفاشلة.
وفيما يتعلق بالعنصر الأول، وهو الشعب، فإن ثمة أوضاعاً اجتماعية معرفية ومذهبية ودينية متطرفة قد تظل كامنة فى بنية المجتمع والثقافة، وقد تثير بعض المصادمات من حين لآخر. غير أنها فى لحظة تاريخية ما ولأسباب متعددة قد تؤدى إلى الانتقال الخاطف المفاجئ من وضع التوازن إلى وضع الصراع الدموى بين أطراف متعددة (السيد يسين، صراع الهويات فى العالم العربى، جريدة الأهرام، قضايا وآراء، الخميس 18 من رمضان 1437هــ الموافق 23 يونيو 2016م). ومن ثم، ولتحقيق هدفها فى صناعة الدولة الفاشلة، تعمل أجهزة المخابرات الأجنبية على تأجيج الصراعات الاجتماعية، وخلق الفتن الطائفية، وتزكية عوامل الصدام بين المكونات المختلفة للمجتمع. وفى الحالة المصرية تحديداً، فإن محاولات قوى الشر لا تتوقف عن ضرب الوحدة الوطنية وبث الفُرقة بين المسلمين والأقباط، أو إثارة الفتنة أو النعرات أو التمييز بين الأفراد والجماعات. وقد يسهم بعض المواطنين الشرفاء فى تحقيق هدف هذه المؤامرات، بحسن نية، ودون أن يكون ثمة اتفاق بينهم وبين الفاعلين لها. وللقضاء على محاولات قوى الشر التى تستهدف تقويض الوحدة الوطنية، ينبغى إعلاء مبدأ المواطنة وتطبيقه فعلياً على أرض الواقع وليس مجرد شعار. كذلك، يتعين على أجهزة الدولة أن تبذل كل جهدها فى تطبيق مبدأ المساواة الكاملة بين جميع المواطنين، دونما تفرقة أو تقييد أو استثناء أو تفضيل بين الأفراد أو الجماعات على أساس الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون أو اللغة أو الإعاقة أو المستوى الاجتماعى أو الانتماء السياسى أو الجغرافى أو لأى سبب آخر (المادة 53 من الدستور). ولذلك، يقولون إن «العدل أساس الملك». ويُروى أن والى حمص أرسل إلى خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز يطلب منه أن يخصص جزءاً من المال لترميم مدينته وتحصينها بسور يصد هجمات الأعداء عنها، فردّ عليه الخليفة الراشد بالقول: «أما بعد، فحصّنها بالعدل ونقِّ طرقاتها من الظلم». وهكذا، وضع الخليفة الراشد يديه على حقيقة اجتماعية مهمة، وهى أن ما يحمى البلاد هم أهلها قبل الأسوار والحصون، ولن يفعلوا ذلك إلا إذا شعروا بأن ثروات الوطن يتم استغلالها من أجل مصلحتهم وأنهم ينالون حقوقهم كاملة. أما إذا شعروا بأن فئة محدودة هى المتنعمة بخيرات البلاد، وأنهم مظلومون وحقوقهم مغتصبة، فإن ذلك يشكّل أرضاً خصبة لتنفيذ مخططات صناعة الدولة الفاشلة.
أما العنصر الثانى، وهو الإقليم، فإن خطط صناعة الدولة الفاشلة ترتكز على معطيات «الجغرافيا السياسية»، وذلك من خلال البحث فى تأثير الجغرافيا على السياسة، أى الطريقة التى تؤثر بها المساحة والتضاريس والمناخ على أحوال الدول والناس. فقد ثبت تاريخياً أن كل محاولات استهداف الدولة المصرية تأتى من ناحية الشرق. وهذه الملاحظة تنطبق على تاريخ مصر القديم، كما تصدق على التاريخ الحديث والمعاصر. وعلى هذا النحو، يمكن أن نفهم السر وراء تركز العمليات الإرهابية فى سيناء، وبحيث يمكن اعتبارها البؤرة الإرهابية الأخطر فى بلادنا. وقد فطنت القيادة السياسية للوضع الهش فى سيناء بعد اتفاقية كامب ديفيد، فأصدرت القوانين واتخذت التدابير والإجراءات الرامية إلى دعم سيادة الدولة على أرض سيناء الحبيبة والقضاء على المؤامرات الخارجية التى تستهدف سيادتها عليها. ونحيل هنا إلى سلسلة مقالات سبق نشرها لنا تحت عنوان «سيناء والدستور».
وأخيراً، يأتى العنصر الثالث من عناصر الدولة، وهو السيادة أو الحكومة. وفيما يتعلق بهذا العنصر، فإن محاولات استهداف الدولة تتخذ شكل زعزعة ثقة المواطنين فى الحكومة ونشر الفساد الوظيفى والإدارى. ولتثبيت دعائم الدولة فى مواجهة مخططات صناعة الدولة الفاشلة يتطلب الأمر اعتماد مبدأ الكفاءة فى تولى المناصب والوظائف الحكومية. والله من وراء القصد.