الأمر لم يعد خوفاً من عودة لقفزة إخوانية شرسة، كما تعدى مرحلة السيطرة على تيارات دينية متشددة، وأصل الحكاية لا يكمن فى فكر دينى قوامه المغالاة فقط أو توجه متأسلم يقوم على السيطرة على الأدمغة عبر احتكار الحق فى التفسير، الوضع أصعب بكثير والدائرة تضيق بسرعة، سرعة ردود الفعل حول لافتات تدعو الرجال المصريين إلى استحضار النخوة والحفاظ على الذكورة عبر منع «الحريم» الواقعات فى نطاق ملكيتهم من ارتداء الملابس الضيقة يلقى الضوء على أبعاد أفظع وأقبح لما جرى لنا نحن المصريين.
ومن ضمن ما جرى لنا أننا اختزلنا الرجولة فى ما ترتديه الإناث المملوكات لكل رجل على حدة، من زوجات وبنات وحفيدات وأخوات إلخ، فالرجولة تعنى أن تمنعهن من ارتداء الملابس «المحزقة»، وعدم الرجولة تعنى أن تسمح لهن بارتدائها، أما الرجولة بمعناها الأممى من صفات يتسم بها البشر ويتميز بها بنو الإنسان، فهى غير واردة أصلاً، ونذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الإنسانية والأخلاق والتربية والمنطق والضمير والتعقل واحترام الآخرين والنظافة والعمل والقائمة طويلة جداً، لكنها باتت غير واردة جداً فى المجتمع، المجتمع المصرى صار لغزاً محيراً، فمن جهة يروج لنفسه أنه مجتمع متدين بالفطرة، لكن به نسبة تحرش تعد الأعلى فى العالم، ويقول عن نفسه إنه محافظ لكنه لم يحدد «هو محافظ على إيه بالضبط؟» ويشيع من حوله أن له خصوصية من حيث العادات والتقاليد، لكن ملامح الخصوصية التى يمكن رؤيتها بالعين المجردة تصب تحت بند القبح والمسخ والتشويه، فبدءاً بالعمارة الحديثة القبيحة رغم ثرائها المادى وتشويه ما تبقى من عمارة قديمة عبر ترميم قبيح أو ستر بتلال من القمامة، مروراً باعتبار كل مظهر من مظاهر الفوضى والعشوائية حلالاً حلالاً طالما أصحابها يصلون ويصومون ويقولون «جزاك الله خيراً»، وانتهاء باعتبار الرجل رجلاً كامل الرجولة فى حال منع ممتلكاته من النساء من ارتداء «الملابس المحزقة» يمكن القول إن اللغز المحير تحول إلى فخ مدمر.
تدمير مظاهر الحياة الآدمية فى مصر دائرة رحاه دون هوادة، ويبدو أن الأمر لا يتعلق بجماعة دينية تٌرَكت ترتع فى المجتمع على مدى عقود حتى سلبت العقول، ولا يقتصر الأمر على مجموعات وأفراد تبرأوا من هويتهم المصرية وجذورهم الثقافية واعتنقوا بدائل أخرى واعتبروها ديناً جديداً وجنسية مكتسبة، ولم تعد الحكاية مجرد شعب وقع تحت نظام فاسد، أو مر بتغيرات وتقلبات سياسية واقتصادية عارمة، أو حاد عن الديمقراطية واستعذب الديكتاتورية، أو حتى ممزق بين متطلبات الحياة الحديثة ومعايير التقدم والتحضر من جهة وجهود عاتية تبذل بضراوة من أجل الإبقاء عليه أقرب ما يكون إلى القاع، بل الحكاية هى حاجة ماسة إلى إعادة هيكلة الأدمغة وضبط زوايا الاحتياجات والأولويات.
أولوية تغطية النساء بمعايير مبتكرى الحملة المجهولة التى ظهرت فى مناطق فى الجيزة برعاية ومباركة مجتمعية وسكوت وغيبوبة حكومية يكشف الكثير مما جرى فى مصر. دعوات «استرجل وما تلبسش بناتك محزق» التى تكشف أولويات فئة ليست بالقليلة فى مصر ينبغى أن تخضع لدراسة وتفكير، ولمن أراد الإنقاذ سرعة التحرك، فها هى قطاعات من المصريين تفتق ذهنها عن حملة «أهلية» يرونها إيجابية وذات أولوية، ولن أخوض هنا فى علاقة الاسترجال بملابس النساء، كما لن أندلف فى سخافات من يحاولون تقديم العرى والبيكينى باعتبارهما الوجه الآخر للنقاب وغيره من أشكال الملابس المرتبطة فى الأذهان بالتقوى والإيمان.
لقد آمن أولئك أن مشكلات المجتمع الآنية تتلخص فيما ترتديه الإناث، لم تتفتق أذهانهم مثلاً عن حملة «بطل تمشى عكس الاتجاه» أو «توقف عن الشتائم وسب الدين» أو «يا ريت بلاش تنف وتتف على الأرض» أو «إنتى بنظافتك الشخصية وقاية من الأمراض ومنعاً للروائح الكريهة» أو «اشتغل بدل ما أنت قاعد على القهوة» أو «لو أنت سواق تاكسى بطل كذب ونصب واحتيال وشغل العداد» أو «لو أنت صنايعى بطل شغل اللكلكة والكذب فى المواعيد» أو «لو أنت مدرس بطل تزرع الفتنة فى أدمغة الأطفال» أو «راعى ضميرك واشرح الدروس فى الفصل مش بس فى الدرس الخصوصى» أو «لو أنت ضابط بطل تتمنظر على الناس وافتكر إن شغلتك تحميهم مش تشوف نفسك عليهم» أو «لو أنت أمين شرطة بطل تمد إيدك تأخذ خمسة جنيه» أو «لو أنت عضو برلمان طالب بحقوق الناس ومثل من انتخبوك» أو «لو أنت دكتور بطل تتاجر بأمراض الناس» وقائمة مقترحات الحملات الأهلية طويلة جداً.
لكن هل هناك ما هو أكثر إثارة أو فرقعة أو مداعبة للغرائز أو مغازلة للأمراض النفسية أو دق على أوتار «الحيطة المايلة» غير الإناث فى المجتمع المصرى؟! المجتمع الذى يعتبر الكثيرون فيه التحرش بأنثى إما مجرد «معاكسة» لا تستحق الاهتمام أو أن المتحرش بها تستحق ما تتعرض له طالما لا تلتزم بمقاييس الأيزو الموضوعة من قبل مانحى صكوك العفة والتقوى، لا يعتبر لافتات «استرجل» مهينة، المجتمع الذى كاد يسقط مغشياً عليه حين دار حديث تونس وميراث النساء يرضى تماماً بأن تكون امرأة هى من تنفق على أكثر من ثلث بيوته، ويبارك ويهنئ حرمان جانب من نسائه حقهن الشرعى فى الميراث إذعاناً للعادات والتقاليد لم يبد اعتراضاً على لافتات «استرجل»، المجتمع الذى يعتبر الدماء التى تسفك على الطرق بسبب جنون القيادة وعتهها مجرد قضاء وقدر لم ينظر إلى اللافتات باعتبارها إلغاء لخانة المرأة وتوريثها كالمتاع للرجل الموجهة له مطالبات الاسترجال.
المسألة أعمق وأخطر، لأن السوس قارب على إصابة كل الجذور، فهل هناك من يسترجل لإنقاذ ما تبقى؟!