عادت قضية الثأر تطل بوجهها من جديد فى الصعيد، وخلال الأيام القليلة الماضية، شهد نجع «كوم هتيم» بمركز أبوتشت أحداثاً دامية بين عائلتين كبيرتين فى المنطقة، راح ضحيتها فى يومين فقط سبعة من الضحايا، وتحولت البلدة إلى كرة من اللهب باتت تهدد بحرق الجميع بلا استثناء.
وتقع بلدة كوم هتيم على بعد نحو 600 كيلومتر من الجنوب إلى القاهرة، ولا يتجاوز عدد سكانها آلافاً معدودة، وكل من واقعها الاجتماعى والاقتصادى لا يختلف كثيراً عن واقع العديد من البلدان المجاورة، وإن كانت الأوضاع فيها أكثر تدهوراً.
لم تكن هناك أسباب جوهرية لتجدد الأحداث التى بدأت فى عام 2004، وانتهت بالمصالحة بين الطرفين المتصارعين، عائلة الطوايل وعائلة الغنايم، لكن البلدة تحولت إلى واجهة الأحداث فجأة بسبب عوامل التحريض التى لعب فيها تجار السلاح الدور الرئيس.. ويوم الأربعاء الماضى، كان عدد من نواب البرلمان عن محافظة قنا وجمع من العمد والمشايخ والرموز الدينية يلتقون باللواء جمال عبدالبارى، مساعد أول الوزير للأمن العام فى حضور العديد من كبار القادة الأمنيين فى جنوب الصعيد ومحافظة قنا..
تحدث الجميع بروح من الموضوعية والصراحة، أكدوا أن الأوضاع التى تعيشها القرى والمناطق المختلفة، وحالة الانفلات الأمنى والأخلاقى التى شهدتها البلاد بعد أحداث 25 يناير 2011، كانت العامل الأساس وراء تجدد مشكلة الثأر فى بلدان الصعيد وغيرها، بعد أن شهدت هدوءاً ملحوظاً قبل هذه الأحداث بقليل.
لقد سيطرت مشكلة «كوم هتيم» على المجتمعين، فراح كل منهم يطرح رؤيته للحل، وعندما تحدث اللواء جمال عبدالبارى راح يؤكد الدور المجتمعى جنباً إلى جنب مع الدور الأمنى، وقال: إن لديه تعليمات واضحة من السيد مجدى عبدالغفار، وزير الداخلية، إن ما ستوافقون عليه سنوافق عليه على الفور، وإنكم أصحاب القرار والمسئولية التى تعظم دور القانون وتحقق الاستقرار.
وعندما قرأ اللواء أشرف رياض، مدير المباحث الجنائية فى محافظة قنا توصيات الحاضرين وبلورها، كان أبرز ما فيها هو إحياء دور لجان المصالحة والتعاون الأمنى المجتمعى والتأكيد على ثقافة التسامح فى المدارس والمنتديات واحترام القانون وحسن التعامل بين الجميع، وإعطاء لجنة المصالحة فترة «شهر» من تاريخه لإنهاء الخصومة الثأرية فى هتيم. لقيت التوصيات تجاوباً، وكان طبيعياً بعد ذلك أن نتوجه جميعاً إلى «كوم هتيم» التى تحولت إلى ثكنة عسكرية بعد أن وقعت فيها الأحداث الأخيرة.. مضينا عبر الطريق الذى يربط بين مركز نجع حمادى ومركز أبوتشت، ومنها إلى بلدة «كوم هتيم» التابعة لقرية الأميرية، شوارع ضيقة، بيوت فقيرة، منطقة معدومة الخدمات، أطفال صغار يسيطر الهلع عليهم، الشوارع تكاد تكون خالية من البشر، مضينا فى شوارعها، وكان اللواء علاء العياط، مدير أمن قنا يشرح وقائع ما جرى، ويشير بيديه إلى البيوت التى تم هدمها لأفراد من العائلتين. وبعد جولة فى البلدة توقفنا فى نهايتها، بعد قليل حدثنى النائب عصام بركات، عضو مجلس النواب عن مركز أبوتشت وقال لى: إن هناك أحد الأشخاص يستطيع أن يتصل بالهاربين داخل زراعات القصب من أبناء عائلة «الغنايم»، ويمكننا الالتقاء بهم بشرط عدم اصطحاب أى من رجال الأمن، تحدثت مع اللواء جمال عبدالبارى، وقلت له: إنها مغامرة ولكن لا بد منها. مضينا داخل زراعات القصب مسافة طويلة، وفجأة خرجت إلينا أعداد كبيرة والتفت حولنا، وجوه طيبة، قلوب صافية، وكم تألمت كثيراً عندما شعرت بحالة الحزن التى اجتاحت العديد من الرموز..
وعلى مدى أكثر من ساعة ونصف الساعة داخل زراعات القصب، كان الحوار حول أسس المصالحة وإنهاء حالة التوتر والمطاردات فى البلدة، وفى نهاية الحوار كان التفويض من الحاج جعفر على أحد كبار رموز العائلة.. ازدادت المخاوف فى الخارج، بدأ الناس ورجال الأمن يتساءلون لماذا كل هذا الغياب؟
تسللت إلينا الكاميرات بعد قليل، ولم يتردد الحاج جعفر فى أن يعلن عن موافقته وعائلته على المصالحة فى ظل عدد من الضمانات. وبعد أن خرجنا من داخل زراعات القصب، التقينا بالعائلة الأخرى «عائلة الطوايل» ووجدنا ترحاباً كبيراً واستعداداً لتنقية الأجواء، والاحتكام إلى لجنة المصالحة التى راحت تمارس دورها بقيادة الشيخ «كمال تقادم»٫ المعروف بدوره المؤثر فى تحقيق المصالحات فى الصعيد. لم يكن الأزهر بعيداً عن هذه الجهود، فالإمام الأكبر د. أحمد الطيب، أوفد منذ البداية فريقاً برئاسة ابن أبوتشت د.عبدالمنعم فؤاد، الأستاذ بجامعة الأزهر لمتابعة الأحداث والالتقاء بالأطراف المعنية.. وبعد الإعلان عن موافقة الطرفين على المصالحة بدأت اللقاءات التى عقدها محافظ قنا اللواء عبدالحميد الهجان والقيادات الأمنية مع لجنة المصالحة لوضع أسس المصالحة وتحديد المدى الزمنى السريع لإنهائها رسمياً والتحرك السريع للجلوس والتفاوض مع الأطراف المعنية.
وبعد ساعات قليلة، كانت اللجنة تعقد اجتماعاتها وتضع الضمانات المطلوبة لتحقيق المصالحة الجذرية، وقد وجدت تجاوباً كبيراً من كافة الأطراف.. خلال أيام قد تنتهى مشكلة «كوم هتيم»، ويعود الأمن والاستقرار إلى هذه البلدة التى تمتد أصولها وجذورها إلى كبار القبائل والعائلات فى المركز، إلا أن السؤال الذى يطرح نفسه: كم «كوم هتيم» فى صعيد مصر؟ ومتى تنتهى هذه الأزمات؟ متى نغلق ملف الثأر ونحتكم إلى القانون؟!