لن تدرك الآثار الكارثية لشيخوختنا التعليمية وتربعنا بجدارة فى المرتبة 141 عالمياً فى مؤشر جودة التعليم العام والعالى ضمن 140 دولة (أى خارج التصنيف) وفقاً لتقرير التنافسية العالمية لعام 2015، ولن تستشعر الأوجاع المؤلمة لمرتبتنا الحالية رقم 135 ضمن 139 دولة فى المؤشر نفسه، إلا حين تمرّ عليك بعض المواقف العابرة؛ منها قصة مهندس مصرى متميز نال شهادة الهندسة من إحدى الجامعات المصرية، وبعد أن رحل مهاجراً إلى كندا اكتشف الوهم التعليمى الذى عاش فيه ومعه، وإليكم القصة كاملة.
فى إحدى أمسياتى فى زيارتى الأخيرة إلى كندا، جمعنى لقاء مع طاقة شبابية ترى المستقبل بقلبها النابض وعيونها المتقدة والمتطلعة إلى غد واعد. يحكى المهندس الذى تجاوز الثلاثين من عمره عن تجربة استثنائية لكنها تستحق التوقف للتعلم منها، فقد تخرج فى إحدى الجامعات المصرية، وعمل أكثر من عشر سنوات فى منطقة الخليج، وبلغ مرتبة وظيفية متميزة فنياً ومالياً بمعايير مجتمعاتنا؛ ثم قرر الهجرة إلى أمريكا الشمالية لتكون كندا وجهته، وليبدأ حياته مع أسرته الصغيرة متوهماً -على حد قوله- أن ما لديه من معرفة، وما حصّله من خبرة عملية، وما بلغه من مكانة وظيفية، ستفتح له الأبواب وستجعله محل حسن الوفادة والترحاب فى تلك الدولة التى تأسرك بثقافتها المتنوعة، وتدهشك بعناصر قوتها المتماسكة وقبولها للآخر.
بدأ صاحبنا مراسلة الشركات الهندسية ظناً منه أن شهاداته وخبراته ستفتح له أبواب الوظائف على مصراعيها، فإذا به يمضى عاماً كاملاً يراسل أكثر من ثلاثمائة جهة دون تلقى رد؛ فأدرك أن الخطب جلل، وأن خطأ كبيراً أوصد باب كل هذه الشركات والمؤسسات فى وجهه، فأبت قبوله. ولأنه أحد صناع الأمل فقد طرق باباً غير تقليدى وهو أحد البرامج التى تؤهل المهندسين المهاجرين إلى كندا لسوق العمل. وما إن بدأ هذا البرنامج حتى أدرك أن شهاداته وخبراته لم تكن إلا قشوراً وهمية لا تسمن ولا تغنى من جوع لافتقادها إلى الحد الأدنى الذى يضعه فى المسار المهنى الصحيح.
ولأن أصحاب الهمم لا يرتضون بأقل من القمم، فقد وافق المهندس الذى لم يعد مهندساً (وفق التعريف الكندى) على القبول بوظيفة متدرب قبل التخرج، ليستطيع أن يبدأ مسيرته المهنية بداية صحيحة كخيار أوحد لا ثانى له. واصل الشاب العمل فى مهام لا يرتضيها حارس عمارة فى مجتمعاتنا كمسئول عن اصطحاب المهندسين والمُلاك لمعاينة وحداتهم السكنية. ولأنه طموح ولا يعترف بالجدران الأسمنتية والتحديات، فقد توالت نجاحاته بعد أكثر من عامين فى رحلة البحث عن الذات، وعن هويته المهنية المفقودة، ومعادلة شهاداته العلمية، التى أدرك أنها لم تكن إلا وهماً وسراباً لأنه يحتاج أن يكون مهندساً معتمداً وليس فحسب حاملاً للشهادات.
القصة على بساطتها ليست قصة نجاح أو عزيمة وإصرار لشخصية طموحة تسعى إلى أن تجد مكانتها تحت ضوء الشمس فحسب، ولكنها تعكس مأزقاً كبيراً يعيشه كثيرون من خريجى جامعاتنا ذات الأنظمة التعليمية المتقادمة، التى لم تعد تقدم للمجتمع ما يجعله ذا قيمة مضافة داخلياً فما بالك خارجياً. ليس أمامنا سوى تبنى إصلاحات جذرية حقيقية للمنظومة التعليمية بالمقارنة بالنظم التعليمية الدولية من حيث المساقات والمستهدفات، واستحداث هيئة الاعتماد وباقى منظومة المؤهلات التى تعيد الثقة للجيل الحالى والمستقبلى؛ وإلا سنكون أمام شهادات ورقية لا تتعدى قيمتها حدودنا، وآنذاك لن نستطيع البقاء ضمن هذا العالم حتى ولو فى آخر القائمة.