عام جديد يمر من العمر، يأخذ من رصيد السنوات المقبلة، لكنه يعطى بالمقابل أشياء وأشياء، لا أحب التفكير كثيراً فى ما تأخذه السنون وفى ما يسرقه العمر، بل أشغل بالى بمزايا التقدّم به وعطايا القدر وفرص الحياة المقبلة.
لعل من أبرز مزايا الأربعين وما يتلوها، هو تلبس روح الحنكة والحكمة، وهضم هذا الكون وتلخيص مساراته، والهدوء النسبى أمام مشكلات الحياة وصعابها، والتحلى بالصبر ورحابة الفكر، وتوقع غرائب الأمور، وقراءة ما بين السطور.
من أهم مكاسبى الشخصية خلال السنوات الأربعين الماضية، تقبُّل الآخر، واستيعاب الاختلاف والتعامل معه، والتماس الأعذار للبشر المحيطين بنا من خلال فهم طبائعهم وظروف نشأتهم ومشكلاتهم النفسية وأزماتهم الحياتية، ومن ثم التعامل برحمة وحكمة وتعقّل، ليتسنى لنا العيش فى هذا العالم بسلام واستقرار.
كيف مرت سنواتى، وكيف جرت أحداث حياتى؟!! ما زلت أتساءل كيف؟!! لكنها بكل الأحوال مرت، ما يُزيد هذا السؤال صعوبة هو تفاوت السرعة بين الروح والجسد، عندما تكون روحك وثّابة قفازة، تملك نشاط المراهقة وطاقة العشرين وأمل الثلاثين،رغم وقوعك فى فخ الأربعين، بتداعياته السريعة ومخاوفه المريعة وحساباته الفظيعة ومحاكمته الشنيعة لروحك وضميرك وإنجازك واجتيازك للحياة وتفاصيلها.
كيف مضت السنوات والأيام فى لحظات، بالأمس جئت على هذا العالم والْيَوْمَ أقف فى منتصف الطريق، بل ثلثيه!! عين على الأيام الماضية تحاسب وتؤنب، تحزن وتتألم من ظلم وقع عليها، أو من خيانات وطعنات غدر موجعة تعرّضت لها، وعين أخرى على الآتى من الأيام تُخطط وترسم الأحلام، وتقنع الروح بأن ما فات مات والأمل فى الغد، وأن جميع ما مضى ما هو إلا زاد الأيام المقبلة.
ارتبطت الأربعون بالحكمة والعقل والرزانة، حيث إنها سن اكتمال العقل ونضوجه بعد تسرع الشباب واندفاعه بقراراته الانفعالية العاطفية. هى كذلك السن السابقة للشيخوخة والكبر، والسن التى تتساوى بها قوة العقل مع قوة البدن. فلا تطغى إحداهما على الأخرى، وهى السن التى نرى بها جميع الأشياء بشكل مختلف، وبلون مختلف ومذاق مختلف.
فى الأربعين، قيم الأشياء تختلف ومعانيها ودلالاتها، هى السن التى تتيقن بها أن ما تراه لا علاقة له بالواقع أو الحقيقة، وأن ما خفى هو دائماً أعظم وأعقد، هى السن التى تعرف بها معادن الناس وينكشف لك الكثير من الخبايا والألغاز.
الأربعون هو العمر الذى تبدأ الاستعداد به لترك أثر وبصمة فى هذا العالم، بعضهم يراه فى ترك ذرية ترث اسمه وعمله، والبعض الآخر يراه فى ترك عمل نافع ينفع البشر ويتذكره به الآخرون بعد رحيله، والبعض يركز على أعمال صالحة ينفع بها نفسه ومن حوله ويجازى عليها خيراً. وبعضهم يحلم بهذا جميعاً، ويسعى لتحقيقه.
وفى النهاية كل سنوات العمر مهمة، وتشكل نقطة محورية فى تسلسل أيامنا وتحكى فصلاً مهماً فى كتابنا الخاص، الذى نسلمه بنهاية الرحلة ليُراجع ثم يعود إلينا ليخبرنا عن الحصاد، والجزاء وعاقبة الأمر. اللهم اجعل حصاد أيامنا خيراً وبركة ورضا وسعادة، وأنر دروبنا بفيض كرمك وعطائك وهدايتك، فما العمر إلا أيّام تمضى فى عِمارة هذا الكون الواسع ونشر الخير ونبذ الشر.