حياتنا رحلة ممتدة متعددة الصفحات بين «أيام معدودات» و«أيام معلومات»، والرحلة الإبراهيمية أسمى وأقدس الرحال الأرضية نحو المراتب السماوية تقرُّباً إلى رب البرية جلّ فى علاه. مبتدأها أفئدة لبّت نداء مولاها حين أذن بالحج، فأتت تسعى من كل فجّ عميق إلى البيت العتيق، تصدح الحناجر بالذكر، ينزعون عنهم كل طيف ولون وعِرق، ويذوب كل شىء فى التوحيد بنداءٍ ربانى، يؤدون شعائر واحدة، على قول: «الله أكبر» يخرّون على نواصيهم ساجدين راجين ساعين، وعلى «سمعَ الله لمن حمده» يرفعون الجباه خاشعين وَجِلين مستبشرين، فى مشهد حارت فى لوحته كل الألسنة والأقلام والعدسات، لا تلمحه حتى تهفو إليه النفس، ولا تراه حتى تتلو: «إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ» [الأنبياء: 92].
لنتأمل بعمق نزهة الروح إلى بارئها مُحرِمة بالتحلل من الثياب المَخِيطة، وقد غادرت كل مظاهر الدنيا الفانية، لا يشغلها سوى أن تُحلّق بجوارحها إلى بارئها، نادمة تائبة، مشتاقة توّاقة، مستغفرة طامحة عازمة على ميلاد جديد، وعفو رب مجيد، بين يديه تطرح الهموم، وتفيض من المآقى الدموع، لا تملك من بضاعتها المزجاة سوى النقاء والتجرّد والرجاء والتزوّد، وكأنها تستعد لرحلة الختام، تناجيه بإقبال وتضرّع، وترجوه ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. فالأرواح طاهرة، والقلوب للرحمن خاشعة، ساعية لنيل القبول الموفور من صاحب البيت المعمور. ينادى رب العزة، ويلبّى العبد النداء (لبيك ربى)، بسكينة الحب والتعظيم والخضوع والتسليم، والإقرار بوجود الكمال المنزه عن كل نقص، والاعتراف بأنه مِلك له، مقراً ومردداً «إن الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك».
وفى صحن الكعبة تكون فى حضرة بيت أرست قواعده ملائكةٌ مطهرون، فيه هدى وبركة وعظمة وقدسية، تسكن فيه النفس وترتاح، فهو المكان الذى شرّفه الصادق الأمين ومهد منه رسالته للعالمين، تشعر فيه بالطمأنينة واليقين. يدرك كل قاصد أن هذه البقعة المباركة لها خصوصية تفرّدية، ويؤكد ذلك توسّط مكة المكرمة من اليابسة، كما أن بُعدها عن أطراف القارات السبع متساوية تماماً بمسافة 13.600كم. هناك تستحضر كل معانى التعظيم للبلد الحرام.
والحاج فى طوافه يحاكى حركة الكون الدؤوب وطاعته المطلقة لله علام الغيوب، يطوف عكس عقارب الساعة كما يدور القمر حول الأرض، والأرض والكواكب حول الشمس، والشمس حول المجرّة؛ «كُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» [الأنبياء: 33]، يطوف حول الكعبة وقلبه متعلق بها، يبوح لها بأمانيه وآماله، بهمومه وآلامه، ينتهى من حيث بدأ، ويبدأ من حيث انتهى، كما دورة الحياة.
وتسير الرحلة نحو السعى بين الصفا والمروة وما فيها من دروس وعبر، تمتد إلى اليوم المشهود، للحج الأكبر، للقاء المفتوح بين العبد وربه، يتنزّل فيه الله إلى السماء الدنيا، فيُباهى بهم ملائكته: ((انظروا إلى عبادى أتونى شُعثاً غُبراً من كل فج عميق، أُشهِدكم أنى قد غفرت لهم))، فما من يوم أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة.
ثم يأتى العهد والميثاق الغليظ حين يواجه الإنسان الطاغوت الأكبر والمراوغ الأعظم الذى يُلون له الدنيا وملذاتها ويغريه بمتاعها ليحيده عن الطريق الصواب، فيرجمه بحصيات، ثم يعود إلى منى استعداداً لدخول أروقة الدنيا بعهدٍ جديد مع خالقه، مستحضراً الهدف الربانى من رحلته فى الوجود: العمل بالتقوى والإيمان، والإعمار بالعدل والإحسان. تلك خواطر تكتبك ولا تكتبها وأنت تتأمل أيام الحج المعلومات.