قبل أن ينهى فنجان الشاى، الذى يتناوله بدعوة من الحكومة البريطانية بضاحية تشيكرز بلندن، اتكأ الزعيم الروسى الأشهر «خروتشوف» على المدفأة القديمة فى القاعة الكبيرة، ونظر فجأة إلى زوجة السياسى البريطانى الأشهر «أنطونى إيدن»، وقال لها بشكل ماكر: «سيدتى.. هل تعرفين كم صاروخاً نووياً يمكنها تدمير بلادكم، ومحوها من فوق الأرض؟» ولم ينتظر خروتشوف الإجابة، بل لم يهتم بالصدمة فى قاعة الاستقبال، وبين كل الموجودين، ولا بأجواء التوتر التى حدثت فى لحظات، ولا بتوقف القاعة عن الكلام، ولا بالأنفاس التى سُجنت داخل صدور جميع المدعوين، إلا أنه أكمل حديثه، وقال: «إنها خمسة قنابل نووية، وهى لدينا»، ثم أضاف: «وكم تحتاج فرنسا ليتم محوها أيضاً؟ إنها تحتاج إلى إحدى عشرة قنبلة، ولدينا فى الحالتين الصواريخ التى تحملها إليكم وإليهم»!
كان حديث الزعيم السوفيتى الروسى فى سياق الغضب الروسى العارم من العدوان على مصر عام 1956، الذى توِّج بالإنذار الروسى الذى وجهه الاتحاد السوفيتى إلى دول العدوان الثلاثى، والذى جاء فيه نصاً عن إسرائيل بعد الحديث صراحة عن بريطانيا وفرنسا: «السيد ديفيد بن جوريون.. إن الحكومة الإسرائيلية المجرمة التى تفتقر إلى الشعور بالمسئولية تتلاعب الآن بأقدار العالم، وبمستقبل شعبها بالذات وبما يؤكد أن الاتحاد السوفيتى وزعماؤه بلغوا من الغضب من العدوان مبلغاً لم يصلوا إليه فى أى أزمة أخرى»!
الرواية كتبها سيرجى خروتشوف، نجل الزعيم الروسى الراحل الذى عومل معاملة سيئة بعد رحيل والده، وقد صادرت أولاً المخابرات السوفيتية المذكرات، إلا إنه استطاع تهريبها من خلال عشرين نسخة طبق الأصل وزعها على عدة أماكن قبل انتقاله هو نفسه إلى الولايات المتحدة وطبعها هناك، ونُشرت على نطاق واسع، وأحدثت دوياً هائلاً بسبب ما حملته من أسرار، رغم اعتقادنا بأن أيدى «سيرجى» طالت ما يحرج أمريكا بعد منحه الإقامة هناك، وبقى منها ما يخص باقى دول العالم وهذا ما يعنينا هنا.. وفى المذكرات يروى أيضاً لحظة تسليم الإنذار الروسى بعد واقعة الشاى، ويقول: «طلب والدى السفير السوفيتى فى لندن، وقال له.. قل للبريطانيين وأنت تسلمهم الإنذار أن خروتشوف يذكركم بحديثه بجوار المدفأة، وهو يشرب الشاى فى عزومة تشيكرز»! ويضيف: «إنه بعد تسلم الإنذار الروسى، هب إيدن من نومه بملابسه الداخلية، ليتصل بالفرنسيين، ويطلب وقف الحرب فوراً، ولا أعرف كيف عرف والدى بأن إيدن استيقظ بملابسه الداخلية إلا إننى تذكرت جاسوسنا فيلبى، الذى كان مطلعاً على كل شىء داخل أروقة الحكم فى بريطانيا»!
كان الاتحاد السوفيتى وقتها، لمن لا يعرف، وكثيرون لا يعرفون، والباقى وقع تحت تزييف إعلامى رهيب، يدعو إلى حق تقرير المصير لأغلب دول العالم ويدعو إلى حق الدول الفقيرة فى تقرير مصيرها وهو الخطاب الذى استقطب بجاذبيته أغلب ثوار العالم الذين وجدوا أنفسهم بطريقة أو بأخرى فى مواجهة الاستعمار القديم، متمثلاً فى الدول الاستعمارية القديمة، بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا وغيرها أو فى مطامع الاستعمار الجديد، متمثلاً فى أمريكا.. وهو ما أسهم فى لجوء أغلب الدول المحررة حديثاً إليه.. أسهم فى ذلك دعمه وقروضه ومساعداته بفائدة لا تذكر، إلا أن العلاقات المصرية السوفيتية بعد 56 انطلقت بسرعة صاروخية أسهم فيها بناؤهم للسد العالى، ثم بداية عصر الشراكة الكبرى فى التصنيع الثقيل فى مصر الذى لم يتوقف عند حدود صناعات الحديد والصلب والألومنيوم، بل امتد لصناعات أخرى مهمة وكبيرة.. فضلاً عن الدعم السياسى الكبير وتعويض مصر خسائرها سريعاً فى حرب 67، وإرسال أطقم طيارين لحماية الحدود المصرية بعد تدمير أغلبية الطائرات المصرية وما تلاها من إعادة بناء الجيش إلى بناء حائط الصواريخ، وحتى العبور العظيم، ثم إسقاط الاتحاد السوفيتى لديونه العسكرية إهداءً لمصر، وكل ذلك جرى تشويهه من خلال شيطنة الاتحاد السوفيتى تبريراً لتحولات جرت فى السياسة المصرية!
بالطبع هناك مشكلات حدثت مع الاتحاد السوفيتى، ومنها مشكلات كبيرة وخطيرة، مثل ضغوطهم لوقف تصنيع الطائرة المصرية «حلوان 300»، وكانت مشروعاً عبقرياً لإنتاج طائرة مصرية نفاثة تفوقت على الميج الروسية.. كان الروس، كما قيل، يخشون على أسلحتهم وسمعتها وكانت مصر تضع فى أولوياتها تحرير الأرض وتم تجميد مشروع الطائرة عام 69 فعلاً.. لاحتياج مصر لروسيا وقتها.. وكما يقولون السياسة مصالح.. وهى كذلك فعلاً.. وروسيا اليوم ليست فعلاً روسيا الستينات، ولا مصر أيضاً مصر الستينات.. لكننا نتوقف أمام بلد وشعب لهما تاريخ طويل وعظيم مع بلادنا لا يمكن تجاهله.. ولا يمكن مقارنته بأمريكا والغرب، وعلاقتنا معهم كلها للأسف مأساوى.. وسلبى وسيئ.. من السلاح الأمريكى لدى إسرائيل وما أصابنا منه، مثل الفانتوم، التى قتلت الأطفال فى بحر البقر.. إلى قتل وذبح الأشقاء فى فلسطين والعراق وسوريا وليبيا واليمن ومحاولات تقسيمها بمخططات أمريكية تأكدت كلها، ومنها التمويل الأمريكى المشبوه للعبث بالداخل المصرى!
ما قدمته روسيا، قدمته الصين والهند بأشكال أخرى، ربما أقل فى الدرجة والنوع.. لكنهما قدمتاه.. وهو ما يجعل بناء علاقات جديدة معهما، ومع التجمع فى «البريكس» يبنى على أسس من الثقة.. وعلى أركان قوية.. يدعمها الماضى وتحميها الشعوب ويسجلها التاريخ.. وليس المطلوب حالة عداء مع الولايات المتحدة أو خصومة معها.. إنما تحديد الأولويات وتقدير المصالح والتوازن فى العلاقات.. وهو ما يدعونا اليوم إلى تذكر زيارة الرئيس السيسى، وهو وزير للدفاع إلى روسيا.. ولقائه ببوتين.. وكيف قام بأول إجراءات إحداث التوازن حتى قبل توليه المسئولية.. وهو ما استفز إدارة أوباما أكثر وأكثر، وأدى إلى منع الأباتشى رغم احتياجنا إليها فى حرب الإرهاب فى سيناء.. ثم منعوا قطع غيار «F 16» رغم احتياجنا لها أيضاً.. ثم تلاعبوا بالمعونة مراراً.. وفى كل مرة لم تقدم مصر أى تنازل ليتراجع الأمريكى فى قراره.. بل راحت تدعم إرادتها أكثر وأكثر.. بمزيد من صفقات السلاح بعيداً عن أمريكا.. ومزيد من المشاريع التاريخية الكبرى، مثل مفاعل الضبعة.. وتمردت على خطوط مرسومة سابقاً بقيت الآن فى الأوهام الأمريكية فقط، مثل قرار تنمية سيناء..
وهكذا يعيد «السيسى» صياغة ليس السياسة المصرية فقط، وإنما الإرادة الوطنية المصرية كلها..
وهو ما يدعونا لنتذكر مقولته الشهيرة التى لم ينتبه إليها أحد بالشكل الكافى: «لست ملزماً بأدبيات العلاقة مع أمريكا»!
وبالفعل لم يعد، ولم تعد مصر كلها ملتزمة بأدبيات سابقة للعلاقة مع أمريكا!!