لقد بدأ تمرّد العبيد فى الأخلاق، الذى يحرّك ذلك النوع من الكائنات التى حُرمت من ردّ الفعل الحقيقى، ردّ الفعل الذى يكون فعلاً، وليس عليهم أن يصنعوا سعادتهم تكلّفاً وهم يختلسون النظر إلى أعدائهم، وليس عليهم، كما فى بعض الأحيان، أن يقنعوا أنفسهم بذلك أو يكذبوا كِذّاباً (كما تعوّد أن يفعل كلّ أصحاب الضغينة)، صاحب الضغينة لا هو مستقيم ولا هو ساذج، ولا هو صادق مع نفسه أصلاً. إنّ نفسه حولاء، وإنّ روحه لَتُحبّ الأوكار والطرق الملتوية والأبواب الخلفية، إنّه يحسن الصمت وعدم النسيان والانتظار، وكيف يصغّر نفسه لبعض الوقت وكيف يستكين.. فالقيم الأخلاقية انعكاس لعلاقات الإنتاج، والطبقة المسيطرة اقتصادياً هى الطبقة المسيطرة أخلاقياً، فى كل العصور وكل المجتمعات، سواءً كان ذلك فى النظام الإقطاعى أو الرأسمالى أو الاشتراكى، فالقيم الأخلاقية مصدرها الطبقة المالكة لقوى الإنتاج.
«إن أخلاق الرحمة والإحسان والصبر هى حيلة ابتكرها الضعفاء لكى يضحكوا بها على الأقوياء، ولكى يأخذوا منهم مكاسب ومنافع»، كانت هذه هى نظرية الفيلسوف نيتشه، حيث يرى أن الأخلاق هى من صنع الفقراء، وقليلى الحيلة، ومن لا قوة لهم، فهم عندما يفقدون كل وسائل الصراع والمقاومة يلجأون إلى حيلة الأخلاق لكى يحصلوا بها على المنافع من الأقوياء، وبناء على هذا قسَّم الأخلاق إلى قسمين، هما: أخلاق السادة، وأخلاق العبيد. أما أخلاق العبيد فهى الرحمة والتضحية والعطف، وهذه هى أخلاق الرعاع والغالبية العاجزة، التى لا تتميز فيها الروح الفردية، وهى مليئة بخداع النفس، فالزهد والتقشف والرحمة والشفقة مثلاً هى أنانية مستترة، فنحن نشفق على الغير لخوفنا من أن يصيبنا ما أصابهم، ونزور المريض لنراه فى ضعفه ونتشفى منه، حتى عطف وإيثار الأم لأبنائها يراه «نيتشه» أنانية، وأنه يعود فى النهاية إلى حب الأم لنفسها. أما أخلاق السادة فهى أخلاق الأقوياء، وتعنى الرجولة والشجاعة والإقدام والجرأة وإرادة القوة والاستقلال والاعتماد على النفس، ومواجهة الآلام والمخاطر، فبهذا يصبح الإنسان قوياً، وهذا ما تريده الحياة. فالضعيف إن فقد وسيلة الأخلاق لم يبق له شىء لكى يبرر به وجوده، فالضعيف إذا ما عجز يبرر عجزه باللجوء إلى المبادئ المثالية، ويحتج بها ضد القوى، قصد رفع الظلم والجور عنه، وغالباً عندما يتعدى مرحلة العجز يتنكر لها إما عملياً أو نظرياً، أو الاثنين معاً، أما القوى فغالباً لا يعطى أهمية لهذا التبرير، فيتمادى فى قهره وإذلاله. أما قضية وجود أخلاق للسادة وأخلاق للعبيد، فهذا ما ينكر على «نيتشه»، وإن وجد فهذا موجود فى رأسه فقط، والحقيقة أنه قد توجد هناك عقلية للسادة وعقلية للعبيد، وليست أخلاقاً للسادة وأخلاقاً للعبيد.