دأب المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى باللغة العربية «أفيخاى أدرعى» على استفزاز العرب والمسلمين فى كل وأى مناسبة تخصهم، ويخصص صفحته على «الفيس بوك» للتعليق ورصد أهم القضايا التى تتعلق بالمواطن العربى بشكل عام والفلسطينى بشكل خاص، فهنأ محمد عساف، الحائز على لقب أرب آيدول، بالفوز، وكذلك يعقوب شاهين، اللذين استنكرا هذه التهنئة الخبيثة ورفضاها! ولا ينسى تهنئة العرب والمسلمين فى أعيادهم وإقحام نفسه فى شئونهم، وفى كل تعليق له على حدث يدس السم فى العسل لتضج وسائل التواصل الاجتماعى بردود الفعل الغاضبة، فهو يقحم نفسه فيما لا يعنيه ويترك من حوله فى دائرة للجدل لا تنتهى، ورغم ذلك لا يتوقف! آخر ما تفتق عن ذهن الجهبذ «أدرعى» كان تعليقه بمناسبة موسم الحج الذى انتقد فيه ظاهرة التقاط السيلفى خلال مناسك الحج، وجاء تعليق «أدرعى» على صورة لحاج يلتقط صورة سيلفى وهو يرمى الجمرات: «صاروا يطلعوا عالحج عشان يعملوا صورة سيلفى»! مستطرداً: «مش أفضل تضل بالبيت؟»، واعتبر متابعو التعليق بأنه مهين، خاصة أنه ينادى بالبقاء فى البيت بدلاً من الحج، ورد معلقون على «أدرعى» بأن الحج لا يخصه، وأنه من الأولى أن يلتزم بوظيفته كمتحدث باسم الجيش الإسرائيلى وأن يشبع فضوله فى شئون الدين بما يحدث عند المكان المقدس لليهود «حائط البراق» وليس عند الأماكن المقدسة لدى المسلمين، لكن اللافت فى تعليق «أدرعى» أنه استقطب آلاف التعليقات وهو بذلك نجح فى نيل الشهرة والرواج. وبعيداً عن تعليق «أدرعى» ونواياه الخبيثة فإن السيلفى فى الحج أصبح ظاهرة وتحدث عنها الإعلام الغربى مطولاً، خاصة أنه من الشعائر المتممة لأركان الإسلام وله رهبته وخشوعه «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً».. فمن منا لا يتوق إلى إتمام أركان الإسلام الخمسة بحج بيت الله الحرام، من منا لا يتوق إلى رؤية الكعبة وغار حراء وغار ثور، بقايا رائحة الرسول الكريم سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، من منا لا يريد التطهر من الذنوب وملامسة تاريخ الحبيب صلى الله عليه وسلم والشرب من ماء زمزم، من منا لا يريد أن يغتسل من الهموم ويرجم الوسواس الخناس ويدنو من الصراط المستقيم قدر استطاعته واجتهاده، يتضرع إلى رب العزة مفرج الكروب وملبى الدعوات ومحقق الأمنيات، يشعر المرء فى تلك اللحظات بتماهى دنياه مع آخرته، شعور شفاف بالطهارة ونقاء السريرة ورفعة الروح دون الالتفات إلى تفاصيل الحياة التى تكدر صفو تلك اللحظات التى تسمو على كل قيمة. الحج إلى بيت الله أمل ورجاء فى مغفرة، وتقرب إلى رب العزة، وتطهر من ذنوب اقترفت وخطيئة لوثت بياض الثوب الإنسانى، وارتقاء من دناوة الدنيا إلى سمو وتأُبُه، لكن ما يحدث الآن فى مواسم الحج وطقوسه الدينية يثير العجب، أصبح الحج طقساً دعائياً واستعراضياً بدءاً من شركات السياحة التى تمارس البزنس والتجارة فى موسم الحج بالتعاقدات المسبقة مع الفنادق والزيارات الداخلية للأماكن المقدسة وما يسمى بـ«المطوف» وانتهاءً بما يمارسه الحاج نفسه برصد كل خطوة يخطوها وطقس يؤديه من طقوس الحج بالتقاط السيلفى وكأنه يحج توثيقاً للذكرى والتاريخ، لا طمعاً فى مرضاة الله ورسوله والتكفير عن ذنوب الدنيا وإغراءاتها. كان لافتاً أن تعج وسائل السوشيال ميديا وشبكات التواصل الاجتماعى بمئات من الصور السيلفى لمختلف الحجاج التى توثق لتلك الشعيرة لحظة بلحظة، تستشعر أن الفخر والاستعراض غالب على الورع والتقوى، الهدف يقفز باستنفار غريزة الشو والاستعراض وليس التوبة والمغفرة والرجوع إلى الله، أصبحت التكنولوجيا نقمة فى عالم باتت تحركه أصابع الربوت، حتى مشاعرنا الإنسانية أصبحنا نتلقاها عبر تهنئة هنا أو هناك من خلال صفحة صماء تعج بالصور والكتابات المنمقة والمجاملات الباهتة فى معظمها لا تعبر عن الحقيقة، نتبارى فى إظهار الخدع البصرية ونكتفى بكيل وابل من التهنئات والتبريكات عبر الأثير، ونسينا أهم صفة تجمع بين البشر وهى التواصل والتراحم والتواد. صور السيلفى بطابعها النرجسى التى تؤخذ فى عالم ملىء بالأسرار تسللت لتلقى بضوئها الأخاذ على موسم الحج بطقوسه وشعائره المقدسة لدى المسلمين على نحو خاص، فانتشرت عبر «انستجرام وتويتر وفيس بوك وسناب شات» وغيرها، لتثير الجدل من مغزى التقاط الصور فى الكعبة التى تعد أكثر بقاع الأرض قدسية وطهارة لدى المسلمين، ورغم أن صور السيلفى لا تعد من الأمور المحبذة لدى العديد من الحجاج، بل وصف البعض تلك الظاهرة بالمرض المزمن الذى لا يمكن إيقاف تفشيه، غير أن آلافاً من الحجاج الآخرين يعتبرونه توثيقاً لحدث مهم فى حياتهم، وتناسوا أن هذا الحدث إنما يُؤدى طمعاً فى مرضاة الله وأن الله مطلع على بواطن الأمور وظاهرها ولا يحتاج لتذكرة أو توثيق! حتى إن بعض الدعاة تنبهوا لهذه الظاهرة واستشعروا خطورتها وبذلوا ما بوسعهم من جهد لتذكير المسلمين بأن التقاط الصور أمام الكعبة والتباهى بها فيهما إهانة للرسول، وافتتح موقع «Arab news» حملة بعنوان «قل لا لصور السيلفى فى الحج»، فالتقاط صور السيلفى ومقاطع الفيديو تتعارض مع توجيهات الرسول ولن تجلب فائدة لأحد، لأن الهدف من الحج يكمن فى تجاوز التفكير بالذات. الآن وفى عصرنا الحديث يعاد تعريف المواقع المقدسة مثل غيرها من الأماكن، ففى موسم الحج 2014 عرف بـ«عام السيلفى» لأنه يمثل ما يعتبره البعض دمقرطة للأماكن المقدسة، فالسلوك التقليدى السائد يركز على قدسية بعض الأماكن مثل الكعبة فى الحرم المكى وقبة الصخرة فى القدس، أما فى عصرنا الرقمى النرجسى، فإنه من الطبيعى أن يكون ما هو مألوف هو المقدس، وأن يعتبر طبيعياً بأن يشكل الشخص من ذاته مركزاً للكون، وهذا يشرح السبب فى تفشى ظاهرة السيلفى وضرورة ظهور الأشخاص فى مركز كل صورة يلتقطونها، لذا فإن كل شىء أو بالأحرى كل ما يدور حولنا هو الذى يعتبر مقدساً، ليتغير مفهوم القداسة فى العالم الرقمى الذى نعيشه كل يوم لتثير النرجسية الجدل، وفى ثقافة السيلفى أصبحنا مركزاً يدور العالم حوله، لتتخذ مئات مليارات الصور، امتداداً من معسكر «أوشفيتز» النازى الألمانى للاعتقال والإبادة، ووصولاً إلى الكعبة رمزاً شخصياً، وتحول ما هو مقدس إلى تنوع مختلف من الأشخاص والألوان والزوايا والنكهات.