بالرغم مما كشفت عنه صحيفة «واشنطن بوست» منذ سنوات، من أن وكالة الأمن القومى الأمريكى (NSA) ومكتب التحقيقات الفيدرالى (FBI)، يمكنهما الدخول مباشرة إلى خوادم تسعة من عمالقة الإنترنت فى الولايات المتحدة، منها مايكروسوفت، وياهو، وجوجل، وفيس بوك، لمراقبة النشاطات الرقمية لمن لا يحملون الجنسية الأمريكية، فإن قمة «الاستخبارات والأمن القومى» المنعقدة فى واشنطن الأسبوع الماضى شهدت الكثير من الجدل فى تلك النقطة على وجه الخصوص، جاء ذلك فى الكلمات التى ألقاها قادة «مكافحة الإرهاب» للدول الغربية الكبرى، حيث طالبوا الولايات المتحدة بالمزيد من التعاون فى مجال تعقب الإرهابيين على أراضى تلك الدول، فى ظل تنامى مهارات العناصر الإرهابية باستخدامهم لـ«الشبكة العنكبوتية» كساحة للحركة وتطوير أنماط النشاط الإرهابى.
لكن قبل هذه القمة، لهذه المطالبات أصل يعود إلى برنامج سرى يسمى «بريزم»، تقوم من خلاله وكالة الأمن القومى الأمريكى (NSA) منذ 2007م، بإذن من قاضٍ فيدرالى، بمراقبة النشاط والتبادل الرقمى لأشخاص لا يحملون الجنسية الأمريكية، والذين يستعملون الخدمات الإلكترونية المختلفة لشركات الإنترنت الأمريكية الكبيرة. وقد أعلن حينها «إدوارد سنودن»، أكتوبر 2013م، لصحيفة «الجارديان» البريطانية، مسئوليته عن تسريب تلك المعلومات باعتباره موظفاً سابقاً فى وكالة الاستخبارات الأمريكية. هذه المعلومات كشفت حينئذ أن الولايات المتحدة تستخدم برامج سرية لمراقبة مستخدمى الإنترنت فى أى مكان فى العالم، عبر وكالة الأمن القومى الأمريكية.
يقوم عملاء الاستخبارات الأمريكية ضمن برنامج «بريزم» بنسخ التبادلات الرقمية بأنواعها من الدردشات الصوتية، الفيديو، الصور، والبريد الإلكترونى، والاتصالات الهاتفية عبر الإنترنت. بالإضافة إلى حفظ سجل الاتصالات، مما يتيح لمحللى الاستخبارات الأمريكية مراقبة وملاحقة «أهداف أجنبية» يُعتقد أنها أهداف إرهابية. ويقوم عملاء وكالة الأمن القومى باستخراج البيانات الرقمية مباشرة من خوادم شركات الإنترنت، وذلك من دون تصريح قضائى للتجسس على هؤلاء المستخدمين لأنهم يقطنون خارج الولايات المتحدة. وقد نفت معظم شركات الإنترنت الأمريكية علمها بوجود هذا البرنامج، أو تعاونها الطوعى أو بشكل مباشر معه، لجمع الكم الهائل من المعلومات والبيانات الشخصية التى تُعتبر خرقاً فاضحاً للخصوصية، والتى ستسىء حتماً لسمعة هذه الشركات وأعمالها.
ومؤخراً أعلن قادة أجهزة «مكافحة الإرهاب» فى ثلاث دول غربية رئيسية عن الحاجة إلى مساعدة أكبر من شركات مواقع التواصل الاجتماعى، للكشف عن التهديدات المحتملة، بعد تزايد هجمات «الذئاب المنفردة» الإرهابية. ففى الوقت الذى تنجح فيه الوسائل الاستخباراتية التقليدية فى إحباط مخططات كبيرة يتم تنسيقها من الخارج، فإن مسئولين أمنيين من بريطانيا وألمانيا وكندا، اعتبروا أن هذا ليس كافياً لكشف الهجمات المستلهمة والمنفذة من قبَل أفراد متطرفين ذاتياً. خلال قمة «الاستخبارات والأمن القومى» المنعقدة فى واشنطن، ذكر «بادى ماكجينيس»، نائب مستشار الأمن القومى البريطانى، أن العديد من الدول ما زالت تركز بشكل كبير على الهجمات التى تخطط لها مجموعات، مثل «القاعدة» أو «داعش» وتشنها من الخارج. لكن بعد هجمات بريطانيا الأخيرة التى نُفذت هذا العام «نحن نتعامل مع مؤامرات لا تعتمد على عنصر خارجى». وأضاف: «نحن نتعامل مع مشكلة فى مجتمعاتنا، مع أشخاص لا يسافرون، لكنهم يتحولون إلى متطرفين بشكل ذاتى، ويتجهون إلى العنف، هذه الهجمات كانت مخططات بريطانية من قبَل أشخاص بريطانيين». أما «كريستيان روسو»، رئيس المركز الكندى الموحد لتقييم الإرهاب، فأطلق على ذلك تسمية التحول إلى «إرهاب 3.0» أو النسخة الثالثة من الإرهاب، فى الوقت الذى يُهزم فيه تنظيم «داعش» فى العراق وسوريا. وقال أمام القمة: «نحن نملك القدرة نسبياً على إيقاف التهديد المنظم الموجّه من الخارج، حيث يسافر الناس وتنتقل الأموال التى يمكن ضبطها. لكن جيل الإرهاب الأكثر تأثيراً الآن فى كندا هو الإرهاب المستلهم». وأشار إلى أن هؤلاء هم أشخاص يقومون بالتحول إلى التطرف ذاتياً، أو عبر الإنترنت، ثم يقررون القيام بهجوم. فى ألمانيا حرص «فريدريتش جروميز»، رئيس القسم الخارجى لجهاز الاستخبارات الفيدرالى الألمانى، على ذكر أن الحالة الألمانية مشابهة لما تم طرحه من قبَل نظرائه، فإن الاعتداءات الأخيرة أيضاً كانت ناجمة عن تطرف ذاتى ومستوحاة من آلية «الذئاب المنفردة». لكن فى الحالة الألمانية فإن المنفذين كانوا من المهاجرين الذين وصلوا مؤخراً إلى البلاد، وليسوا مهاجرين من الجيل الثانى كما فى كندا وبريطانيا والولايات المتحدة.
اعتبر قادة «مكافحة الإرهاب» أن قوانين الخصوصية المشددة، والحمايات التى تتمتع بها شركات الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعى الأمريكية العملاقة تعرقل قدرة السلطات على كشف تهديدات الخلايا والذئاب المنفردة. وقال «بادى ماكجينيس» إنه يريد دعماً أكثر، من (فيس بوك، وجوجل) وشركات عملاقة أخرى تملك القدرة على إجراء مسح آلى على نطاق واسع للمستخدمين، للكشف عن تهديدات محتملة. كما دعا أيضاً الولايات المتحدة إلى تمرير قوانين، تسمح فيها لشركات الإنترنت الأمريكية بالرد على مذكرات تحرٍّ، صادرة عن دول أجنبية. وقال إن أكثر من (95%) من قضايا الجريمة والإرهاب تشمل أشخاصاً يستخدمون تطبيقات بتقنية أمريكية.
وأشار «كريستيان روسو» إلى أن المهاجمين المحتملين ومدربيهم من تنظيم «داعش» غالباً ما يستخدمون «الشبكة السوداء» المشفّرة للتراسل. ولذلك نستطيع أن نرصد «الدعوة» للحوار، لكن لا يمكننا رؤية المحادثة بعد ذلك، مضيفاً: «التشفير يمنعنا من رؤية الصورة كاملة». واعتبر «فريدريتش جروميز» أنه حتى فى ألمانيا، حيث قوانين الخصوصية مشددة، هناك تفهُّم متزايد للحاجة إلى إعطاء المحققين فى مجال الإرهاب القدرة على النفاذ أكثر للمعلومات.
تلك بعض من الصرخات المكتومة التى شهدتها أروقة تلك القمة لـ«مكافحة الإرهاب»، وهو حديث يدور بين حلفاء ويعطى تقييماً لخطورة تلك الساحة الإلكترونية الجديدة التى باتت تشكل هاجساً حقيقياً، ومن غير المعلوم حتى اللحظة مدى الاستجابة الأمريكية الرسمية الاستخبارية، أو عبر شركاتها العملاقة الممسكة بمفاتيح هذا الفضاء العنكبوتى الهائل.