أبحث دائما عن الإنسان، شعلة الحياة في الأماكن التي أمر بها. تعبر أمامي الصور، فالتقط تفاصيلها بحماس. شغوفة بحكايات الشوارع الزاخرة بحواديت البشر البسطاء، التي تبدل صمت المكان صخبا وتملأ فراغه حياة وتمنح الدروب مشاعر وأمنيات. التعبيرات المرسومة على الوجوه تجذبني لاستطلاعها، ابتسامة شاب وسيم من خلف زجاج سيارة لإحداهما. خطوات فتاة واثقة تتحدي عبث الشوارع معها، صورة يلتقطها مجموعة أصدقاء صنعت ذكرى لهم في المكان، هموم تمشي على قدمين وتجاعيد استحوذت على نضارة بشرة شباب العشرين، أحلام تخطتها عقارب الساعة ودهستها عجلات السيارات على الطريق.
في الصباح تستيقظ رغبات تجددها أشعة الشمس بعدما أخمدتها فى الصدور أمسيات سابقة. وفي الليل ضخب وملل ولا مبالاة وإدعاء تصالح مع النفس. يكمل خيالي فصول الحكاية تلو الأخرى، وسطاء أستطيع من خلالهم أن أعبر عن نفسي وأحلامي، أستكشف وأكشف وأضع رتوشا تكتمل بها اللوحة. في قلبى حكاية لا تكتمل إلا بتلك الحكايات. إن غابت، غابت حكايتي. رغبة في أن أمزجها. أربط بين شخوصها بحكايات فرعية. أبروز المشاعر ونظرات العيون وأفرغ مكنونات الصدور وأهدي الأمال. تحتفظ ذاكرتي بالصور ليوما ما ربما يأتي، وأعزف مقطوعتي في السرد. على المقهى رأيته يجلس وحيدا. بين أصوات النرد المتدحرج على الطاولات ودخان الشيشة، يحملق في الفراغ. أحيانا يبتسم لأحدهم أو يهز رأسه مؤمنا على حديثه دون وعي أو يتحمس للاعب دون آخر بلا داعي. حركات آلية تصدر منه، طاقة يخرجها بلا هدف من جسده الذي تعب من الخمول. يتحسس حافظة نقوده بقلق. هل ما بها يكفي للجلوس ساعات أخرى. ينظر في ساعته ويفكر. مرار العودة للمنزل حيث الشعور بالخزي وقلة الحيلة ونظرات العيون المشفقة. تمر الأعوام ولا جديد في حياته أو تقدم يذكرغير الخطوط الرقيقة التي تكونت تحت جفنيه. يتبع ببصره ظل الفتيات. تتعلق دقات قلبه بخصلات شعورهن. صرخة ألم وندم تتردد في داخله. تبا للرغبات والحسرات المكومة في صدره منذ سنوات، جاسمة على أنفاسه. يهرب بمتابعة الشاشة المعلقة على أحد الجدران. علي ورجاء يصعدان عربة الترحيلات وخلفهم جيل الأباء المهزوم، تعساء لمصير أبنائهم. تدمع عينيه ويعود للبحلقة في الفراغ. يمزق قلبه صوت أم كلثوم القادم من بعيد، ربما من داخله فى قفلة الكوبلية الأول من الأغنية فات الميعاد فات..
يدها في يده، لا تتركها إلا حين تناديها أشياء الفتارين الزاهية. تسبقه خطوات وتهيم في رغباتها. امرأتان بداخلها. واحدة تحب هذا الرجل ولا تبادله بأثمن الأشياء، وأخرى تمقت فقره ولا تريد التنازل. تعرف أن الأخرى دنيئة وتسأل هل يشعر بوجودها. تعيش معها حتى في أصدق لحظات الحب. تملك نصف عقلها ونصف قلبها. تفاضل وتلتمس أعذار وداع محتمل وتوسوس له. تنساه خلفها بين أفكارها وأشياء الفتارين يبتسم في ضعف وحنان. بين الوعود والواقع يخشى أن تأتي لحظة يستسلم فيها الحب.
على الرصيف يجلس يتابع السوبر ماركت المكتظ بالزبائن. أين ذهب الفقراء. ينتقل ببصره للجهة المقابلة حيث دكان الجزارة. يطالع اليافطة المعلقة على جداره. أمس كان سعر كيلو اللحمة 150 جنيها، اليوم تغير الرقم إلى 160. لماذا يعيش إلى الآن. تذكر أنه أشترى كيلو اللحمة أول زواجه بثلاثة جنيهات. كان بيته بيت كرم وعزومات. كل شيء متوفر بكثرة، لا هموم ولا أعباء. اليوم يتهرب من أقل عزومة. كان لا يجب أن يعيش ويرى أن توافر الطعام أصبح شدة من الشدائد يحسب لها ألف حساب. بالأمس كانت الشدائد مختلفة. يفكر في أحوال الفقراء وقد أصبح منهم. بالأمس كان يتصدق عليهم. أين يهرب من رغبات أبنائه وعيونهم المتطلعة. اليوم حدثت مشادة بينه وبينهم. صرخ فيهم نحن فقراء. الفقراء لا يأكلون النوتيلا ولا البسطرمة ولا الجبن الرومي ولكنه يعرف أن ذلك الصراخ لا ينفي وجود تلك الأشياء ولا ينفي رغبات الناس بها ولا ينفي أن السوبر ماركت مكتظ بالزبائن الآن، فأين ذهب الفقراء.
فتى صغير يبيع بالونات ملونة. تناديه أصوات تخرج من مدينة الألعاب المائية وصور المرح والبهجة تطل عليه من خلف السور القصير. يرى رفاق سنه يدخلون بصحبة أبائهم. ذاك الصبي يشبه، أو من بعيد تخيل ذلك. ربما تلاشت الملامح وسكنت ملامحه هو وجه الصبي. وجد نفسه داخل المدينة وسط هدير مياة المسابح والزلاجات والألعاب المائية وضخب الأطفال. ارتسمت ابتسامة كبيرة على وجهه. امتلك حلمه لدقائق ثم استيقظ ليجد يده فارغة من بالوناته، التي سافرت خلف السور القصير كأحلامه.
فتاتان، واحدة تتكلم كثيرا والأخرى كلما همت بالرد قاطعتها الأولى. تشتكي وتحكي تفاصيل كثيرة ولا تنتظر رد. يأتي شاب يسلم على الفتاتين ويقف مع المتكلمة على جانب من الطريق دقيقة كأنه يسترضيها، والأخرى ساهمة. تمضي الفتاة مع صديقها ويتركانها ساحة انتظار خالية إلا من صدى أصوات المغادرين بكل عبثهم وحكاياتهم، وشكواهم التي لا تنتهي. أصوات لا تقدر ولا تحاول أن تقترب من القلب الخالي المعذب. بداخلها سؤال يتردد متى ستبدأ حكايتي. دوما تسمع ولا تتكلم. دوما تواسي وتساند. هل ستعيش بلا حكاية، مأساة كانت أو ملهاة، بلا كلام تلقيه على مسامع الأخرين فتستحوذ على إهتمامهم.
فى الشرفة المليئة بالزهور يجلس الرجل القعيد كل يوم، هذه نزهته الصباحية. ولكنه ليس بطل الحكاية. هو ظلها فقط. فتاة ربما هى ابنته ترافقه. تحضر له الأفطار والراديو الذي يستمع فيه أغاني ميادة الحناوي. أغاني ترتبط بذكرياته هو، ملت من الاستماع إليها ومن دندنته الدائمة لها. تعبير الاستسلام والآسى على وجهها مرعب . كلما همت بالمغادرة دعتها نظرة استجداء في عينيه، لا تتركيني فتجلس. تستمع ما يسمع وتأكل مما يأكل، تعيش فى حكاياته عن الماضي، مربوطة بعالمه القديم، مقيدة بالشفقة على تجاعيد وجهه. تخاف أن تجرحه بكلمة، بنظرة، برفض مشاركته أحاديث سمعتها عشرات المرات. لا تشعر بالتعاسة ولا السعادة، ولكنها باتت لا تشعر بالرضا مثل الأيام الأولى لمرضه، ورغبة دائمة فى البكاء تجتاحها. في أطراف جفنيها تحبس الدموع وتدندن معه أغاني ميادة. أشاهده في كل الشوارع. كأن مآسيها لا تكتمل إلا بمأساته..هذه المرة شاب صغير تناثرت الشعيرات البيضاء عنوة في شعره الأسمر. هيئته رثة وملابسه أكلتها الأوساخ تنطلق بعض كلمات منه بسرعة لا يتبين منها إلا أسماء أشخاص مصحوبة بالسباب واللعنات ترى ما قصته معهم ينظر له جمهور الشارع نظرة عابرة ثم ينسوه. لا أحد مهتم بمعرفة حكايته ربما لأنها مكررة. ربما كانت حكاية من الحكايات السابقة.