من عاداتنا المصرية القديمة والتى ما زالت معروفة ومنتشرة حتى الآن فى الريف المصرى (حلة الاتفاق)، ولمن لا يعرفها أقول هى عشاء العروسين ليلة الزفاف وتقوم أم العروس بإعداد ما لذ وطاب من اللحوم والطيور والأسماك لهذه الوجبة، ولا بد من الحلوى والفاكهة أيضاً، وتقاس درجة غنى العائلات فى هذه الليلة بمحتويات حلة الاتفاق. ومن الطريف أن تكون هذه الوجبة من مسئولية أم العروس وأن تشاركها فى إعدادها نساء العائلة ليعرفن ماذا أعدت للعروسين، إلا أن عجائز القرية يوضحن أن هناك سبباً وراء هذه المهمة فالعروس ستظل فى بيتها هى المسئولة عن لم الشمل ومنح الحب والحنان للجميع فتتعلم من الليلة الأولى لها فى منزل الزوج أنها لا بد أن تجلس معه أثناء تناول الطعام وأن تتحدث إليه وتستمع لما يريد أن يفضفض به وأن تضم لهذه المائدة الأبناء واحداً تلو الآخر بعد إنجابهم، فمن عاداتنا الجميلة التى افتقدها الكثير بل الأغلبية من العائلات تناول الطعام مع رب الأسرة حول مائدة واحدة. وإذا كانت عروس الريف المصرية تشارك الزوج الطعام منذ ليلتهما الأولى معاً على (الطبلية) فإن هناك فى دول الخليج تقليد جلوس العائلة مجتمعة إلى مائدة الطعام وبالأخص فى صحن واحد كبير يسمى (الغنجة) حيث يتناولون قطع اللحم أو السمك مع الأرز فى هذا الصحن الذى يرمز للمحبة والود بين أفراد العائلة.
ومن ضمن المسلسلات اليومية التى شدت العائلات المصرية لها مسلسل (حريم السلطان) وبعيداً عن أحداثه الدرامية والسياسية ومدى صحتها تاريخياً فإن أكثر ما لفت انتباهى هو حرص السلطان سليمان، الذى حكم العالم، على تناول الطعام مع زوجته المفضلة وأبنائه، وكأنه كان يرسخ مبدأ الألفة والحب والمودة بين الأحبة بعيداً عن الملك وكرسى العرش. وعودة للبيت المصرى أقول إن الأسر المصرية قديماً كانت تنتظر وتستعد لتناول الطعام كما لو كان احتفالاً، حتى الأسر البسيطة الحال، فليس المهم ما تضمه المائدة قدر الاجتماع حول الطعام. ولا أنسى حتى الآن أستاذى الذى تتلمذت على يديه فى دراسة الأدب الشعبى الراحل (فاروق خورشيد) وهو يحدثنا فى إحدى محاضراته عن الأحياء الشعبية القديمة (باب الشعرية) الذى عاش طفولته فيها، وكان يقول: (كنا ندرك أن جارنا العزيز عاد من عمله عندما تفوح فى المنزل بأكمله طوال أيام الصيف رائحة طشة الملوخية، فقد اعتادت زوجته أن تعد له طبقاً طازجاً يومياً بكل حب وسعادة ليجتمع الأبناء والزوجة على وجبة الغداء)، وكان يقص هذه الرواية لنا كمثل على العادات المصرية وتقاليد العائلات القديمة.. ولا بد أن نعترف أن التقدم التكنولوجى وتغير نمط الحياة فى العالم كله أصابنا بحالة من الغربة داخل منازلنا وأصبحت بعض الأسر مجرد هيكل عائلة يسهل هدمها بسبب الفرقة التى أصابت أفرادها، بينما نجد البيوت التى تحرص على الاجتماع الأسرى أكثر تماسكاً، كما أن أفرادها لديهم فرص تبادل الخبرات الاجتماعية والحياتية والشعور القوى بالانتماء، الأمر الذى لفت انتباه خبراء علم النفس والاجتماع الذين يؤكدون أن الجلسة العائلية الدافئة عند الاجتماع على الطعام ليست ترفاً تربوياً بل هى وسيلة ناجحة ومهمة من وسائل التربية المتوازنة، فالاجتماع بالحب والود بين الوالدين والأبناء يمنحهم الكثير من الإشباع العاطفى والاستقرار النفسى وليس الأمر كذلك فقط بل إنه يلعب دوراً فى ربط الأبناء بمؤسسة الأسرة وتأكيد انتمائهم لها، ما يحافظ على دورها المؤثر الأقوى فى تكوين أفكارهم وتوجهاتهم وبناء قيمهم وأخلاقهم. ويؤكد الأطباء النفسيون على ضرورة العودة لتلك العادات فى تناول الطعام الأسرى بعيداً عن الوجبات السريعة التى لم تهدم الأسرة فقط بل وصحة أفرادها أيضاً، حيث يشيرون إلى أن تناول الطعام والإنسان بحالة نفسية من الراحة والرضا والطمأنينة يمتاز عن غيره بأمور كثيرة نحسها جميعاً، فالذى يأكل وهو متوتر أو مشغول يتعرض لحالات عسر الهضم أو الشرقة، فضلاً عن عدم استلذاذه بهذه النعمة التى بين يديه، فى حين نرى العكس فمن اطمأنت نفسه وسكنت يشعر بلذة الطعام وإن كان من أبسط الأنواع.
وهناك مثل إنجليزى يلخص كل ذلك يقول: (نكهة طعام قليلة واستقبال حار يصنعان وليمة سعيدة)، وللزوجات أقول إنه لا بد أن نطبق هذا المثل فى منازلنا وأن تعلمه الأمهات لبناتهن لأن الدراسات أثبتت أن أغلب الاضطرابات النفسية التى تصيب الأبناء تتسبب فى عدم قبولهم العادات العائلية ويرجع ذلك إلى التكوين النفسى للأبناء الناتج عن حياة أسرية غير مستقرة. فالأم هى المسئولة عن تعليم الأبناء الانتماء والتماسك.
والطريف أنه فى كتب المراسم والبروتوكول توجد أبواب كاملة عن تناول الطعام وإعداد الموائد، خاصة أثناء الزيارات الرسمية للملوك والرؤساء، ما يؤكد حميمية هذه المائدة التى تجمع الأصدقاء. وقد تحدث الرسول الكريم محمد، صلى الله عليه وسلم، عن دعوة الناس للطعام وحث على الاجتماع على الطعام لزيادة البركة فقال جابر، رضى الله عنه، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (طعام الواحد يكفى الاثنين، وطعام الاثنين يكفى الأربعة، وطعام الأربعة يكفى الثمانية). ولأحبتى أقول لا بد أن نعود للمودة والرحمة والحديث الدافئ ولا مانع من أن يكون اللقاء حول الطعام لنأكل معاً لقمة الحب.