فى مقتبل العمر، توازت بدايتى المهنية فى «مجلة صباح الخير» مع حرب أكتوبر ٧٣؛ مما هيّأ فرصة حقيقية لأن أحيا عن قرب وعمق فترة من أعظم تجليات مصر.. بطبيعة الظروف كان العمل الصحفى على «تخوم» ما يجرى، حتى وإن لم يكن مباشرة على جبهات القتال.. وهكذا كانت زيارات المقاتلين والمعايشة لبيوتهم وأسر الشهداء، والدماء بعد لم تجف.. كان «تعميدنا» المهنى فى أجواء تماس مع البذل والمنح الوطنى غير المشروط.. جرت فى نهر الحياة فى مصر وفى نهر المهنة مياه ومياه.. عشنا الأوج الوطنى، وتعايشنا مع ثمار أكتوبر التى سقطت فى «حجر» ديناصورات الانفتاح، ثم قناصة اقتصاد السوق الحر.. كنا شهوداً على محاولات لخلخلة «الذاكرة الوطنية» بالإحلال والتبديل أو بالتغييب.. كان موجعاً، لمن اقترب وشهد، أن يرى أن الذى أعطى ومنح الوطن، لم يكن بذاته هو من حصد الثمار.. ما بين ٧٣ والعقود التالية، كان الشحوب والتوارى لمن كانوا عطّائين ومانحين للوطن.. أتذكر أن البطل المصرى «عبدالعاطى»، الذى امتلأت الصفحات أيام الحرب بصوره، وعُرف واشتُهر بأنه «البطل صائد الدبابات»، ظل الاحتفاء به فيما تلى الحرب من سنوات قليلة، ثم انتهى به المطاف ساعياً وراء البيروقراطية المصرية يحاول الحصول على حقه فى استخلاص «حصة دقيق» بعد أن انتهى به الأمر لصاحب طابونة أو مخبز عيش، يقتات منه.. كان مثيراً للجنون بالنسبة لمن تفتح «وعياً ومهنة»، فى أول سبعينات النصر، أن يكون هو نفسه شاهداً على مصائر أبطال أتوا لمصر بأرضها ثم تواروا وانسحبوا، وفى أحسن الظروف، يستحضرهم «الإعلام الموسمى» أسبوع أكتوبر من كل عام.. فى أواخر التسعينات كنت قد انتقلت إلى «الأهرام»، فى واحد من أشهر أكتوبر، خطر ببالى أن أسافر إلى السويس وأفتش عن مصائر أبطال «منظمة سيناء»، هؤلاء الذين كانوا عاملين فى شركة السويس للبترول، وتحولوا إلى ظهير عسكرى وعمود للمقاومة مع الجيش.. لم يكن الحصاد إلا «وجع على وجع»، ولا أريد الاستطراد أكثر من القول إن من عاش من هؤلاء الأبطال لم ينَل إلا «الحصرم» بينما كانت ثروات الوطن وأرضه تتوزع «عطايا»، يهبها من لا يملك لمن لا يستحق.. كانت مآلات المصائر لأيقونات المقاومة والوطنية، تجاوز ما يمكن أن يتصوره حتى خيالات «الفن»، على حين انقض «قناصة» محترفون على ثروات وطن، لم يكن ليستقل لولا تضحيات أمثال هؤلاء المعطائين، الذين كان أقل ما ينبغى أن يلقوه هو أن يكونوا فى الصدارة من كل شىء، وأولها «ذاكرة الأجيال»، ليكونوا دروساً حية. كل واحد من هؤلاء الأبطال وغيرهم، سواء من الشهداء أو الذين أمد الله فى أعمارهم، كان كفيلاً بأن يتصدر ذاكرة الوطن، وواجهته فى الإعلام والتعليم والثقافة.. كل حكاية كانت يمكن أن تكون «لبنة» ليس فى بناء المعانى والقيم وحدها، بل فى بناء «ذاكرة وطنية» حقة تقى الأجيال شر التيه والالتباس.. فى عرف الأوطان، الذاكرة: «حصن من التراكم» سياج يحمى الشخصية، دليل.. عشنا وعياً فقيراً ملتبساً بلغ مدى من التردى، أستحضر له نموذجاً لم أستطع أبداً تجاوزه، فى واحد من البرامج، راح المذيع يسأل شاباً فى «مناسبة وطنية»: «تعرف إيه عن عبدالمنعم رياض؟»، رد الشاب: «موقف أوتوبيسات فى ميدان التحرير!!».. عشنا وعياً «ممسوخاً»، أحياناً.. هبّات على «سطح» إعلام اختزل فكرة بناء الذاكرة فى عشرات من «الأوبريتات»، السنوية، لم يفلح عمل واحد منها فى أن يعلق فى الوجدان أو يستقر، لسبب بسيط أنها كانت أعمالاً لا تختلف فى جوهرها عن أى «مقاولات» كل ما يعنيها أكبر قدر من الكسب، من ناحية، ومن ناحية أخرى وربما لا تقل أهمية، كان «الاسترضاء» عصفوراً ثانياً، يتم اصطياده. المحصلة المُرة مع السنوات هى الذبول والشحوب والتوارى والوهن الذى أسفر عن فراغ وجدان وعقول أكثر من جيل.. لم يكن الأمر فى حال أفضل، لو بحثنا فيما تقدمه وزارة التعليم أو ما تقصد أن تودعه فى لبنات تكوين أبنائنا.. جرعات أشبه «برقائق بلاستيكية»، جرعات كسولة، لا يمكن بأى حال أن تتسرب إلى مسام أبناء وأحفاد هؤلاء، الذين لولاهم ما كانوا فوق هذه الأرض الآمنة.. تجربة التعامل مع الذاكرة المصرية، بناءً وهدماً، فى العقود التى تلت حرب أكتوبر، واستقراء الواقع الاجتماعى والاقتصادى، تجربة شديدة الأهمية، لأن ما تم إسقاطه من هذه الذاكرة، وما أجهضه عدم صدق الإعلام ولا موضوعيته، وتسطيح العقول التى كانت مسئولة عن تشكيل الوعى، سواء فى مجال التربية والتعليم أو الإعلام، أقول إن هذه التجربة التى أخفقت فيها أجهزة حكومية ونحن ندفع ثمن إخفاقها الآن، كانت هى الدافع وراء ما استوقفنى، وما يجرى ويستحق الرصد والتوقف.. الناس أخذت المبادرة لبناء ذاكرتها الوطنية.. ربما دون قصد، لكن هذا ما يجرى.. الناس أدركوا أنهم إزاء إعلام قاصر الرؤية، وتعليم لا يدرك المعنى، فخافوا أن تتحول تضحيات أبنائهم إلى مجرد «حضور عابر» خاضع إلى «موسمية التذكر» أو ترقد عطاءاتهم للوطن فى قاع النسيان.. الناس انتبهوا فكانت حكايات «منسى» أو الشهيد أحمد صابر منسى، العقيد أركان حرب أحمد صابر منسى، قائد كتيبة الصاعقة ١٠٣ برفح.. «منسى» ورجاله.. حكايات «منسى» نقطة تحول فى فكرة بناء الذاكرة المصرية... وهذا موضوعنا الأسبوع المقبل.