إذا طلبت من مجموعة من الناس الإجابة عن السؤال التالى: «هل أنت سعيد؟»، فربما تأتيك إجابات واضحة من معظمهم، وإذا سألتهم أيضاً: «إلى أى حد أنت سعيد؟»، فإنهم سيجدون إجابات على الأرجح، لكن الإشكال سيحدث دائماً حين تسأل: «ما الذى يجعل المرء سعيداً؟»، أو «ما مؤشرات السعادة؟»، حيث ستتلقى آلاف الإجابات المتضاربة والمتباينة.
يسهل جداً أن نتحدث عن مفهوم ما باعتبارنا نعرفه ونحس بأثره فينا، لكن الصعب حقيقة أن نحرر هذا المفهوم، وأن نصوغ تعريفاً واضحاً له، وأن نضع مؤشرات تدل إليه، وتقيس مدى وجوده أو غيابه.
لذلك، فقد ظل مفهوم السعادة مراوغاً لقرون طويلة، قبل أن يأتى ملك بوتان السابق «جيجما سينجى»، ويحاول أن يرسى مؤشرات لقياس السعادة، فى طريقه لكى يجعل شعبه سعيداً، وبالفعل فقد نجح فى تطوير ما عُرف لاحقاً بـ«مؤشر السعادة الوطنى الإجمالى»، وهذا المؤشر بالذات هو نفسه الذى كان أساساً لمحاولات علمية وسياسية أخرى عديدة بُنيت عليه، وفعّلته، وصولاً إلى تطوير عشرات المؤشرات الدولية المعتبرة، وهو الأمر الذى مكّن دولاً مهمة من تعيين وزراء للسعادة، وأتاح لشعوب مميزة أن تحاسب حكامها إذا ما أخفقوا فى صيانة مؤشر السعادة الوطنى وإبقائه مرتفعاً.
يبدو أن الذى حدث مع السعادة حدث أيضاً مع مئات المفاهيم الأخرى؛ ومنها بالطبع مفهوم «القوة الناعمة»، الذى ظل لسنوات عصياً على الضبط والفهم، رغم غزارة استخدامه من قبل قطاعات كبيرة فى النخبة المصرية والعربية.
ويبدو لكل من يتابع تفاعلات نخبتنا العربية عموماً والمصرية خصوصاً مع هذا المفهوم أن سوء فهم عميقاً سيطر على هذا التفاعل؛ بحيث تم اختصار مفهوم «القوة الناعمة» فى الغناء والرقص تقريباً من جانب، وتم اعتبار هذا المفهوم منفصلاً عن قوة الدولة الشاملة، وغير خاضع لإدارتها، باعتباره مهمة المطربين والموسيقيين والسينمائيين والشعراء فقط، من جانب آخر.
إن تحرير مفهوم «القوة الناعمة»، وتفصيل مؤشراته المتوافرة، وتحليل تجارب الدول المتقدمة فى استخدامه، كلها أدوار مهمة وواجبة، لذلك فقد كانت مكتبة الإسكندرية موفقة، حين اختارت عنوان «مستقبل القوة الناعمة فى مصر» ليكون موضوع نقاشات أول صالون ثقافى تعقده، تحت إدارة مديرها الجديد الدكتور مصطفى الفقى.
ظهر مصطلح «القوة الناعمة» لأول مرة بمعناه الحالى فى العام 1990، فى مقال كتبه بروفيسور العلوم السياسية فى جامعة «هارفارد» الأمريكية «جوزيف ناى»، فى دورية «السياسة الخارجية»، تحت عنوان «القوة الناعمة: استخدام الجاذبية والإقناع لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة».
وعاد «ناى» إلى المفهوم مجدداً بمحاولة أوسع لتأصيله وتنقيحه فى كتاب شهير بعنوان: «القوة الناعمة: سبل النجاح فى عالم السياسة الدولية»، وهو الكتاب الذى صدر فى العام 2004.
وفى أبسط صورة ممكنة، يشرح «ناى» مفهوم «القوة الناعمة» باعتبارها: «قدرة الدولة على تحقيق الجذب والتأثير من دون إجبار وإكراه»، وبمعنى آخر فهى: «قدرة الدولة على خلق مطاوعة لإرادتها وسياساتها لدى الآخرين عبر الإقناع، ودون حاجة إلى القوة الصلبة».
إن «القوة الناعمة» مفهوم سياسى بامتياز؛ وهو أمر يخص الدولة بقدر ما يخص المجتمع، ولا يمكن للقوة الناعمة أن تعمل خارج نطاق إرادة الدولة وأهدافها، وهى تمتزج مع القوة الصلبة (العسكرية والاقتصادية والأمنية والديموجرافية) لكى تشكل «القوة الشاملة» للدولة، كما أن توظيفها بحصافة مع شقيقتها «الصلبة» يُنتج ما وصفه «ناى» لاحقاً بأنه «القوة الذكية».
وعلى عكس ما يعتقد كثيرون فإن مفهوم «القوة الناعمة» يتضمن مؤشرات عديدة لقياسه وتعيينه تعييناً منضبطاً، بعض هذه المؤشرات يصل إلى 75 عنصراً، وقد تم تطويره وتفعيله على المستوى الدولى منذ العام 2015.
وبين المؤشرات الـ75 تلك ستجد التعليم، والسياحة، وعدد السياح، والتنافسية الاقتصادية، وترتيب فريق كرة القدم الوطنى بحسب «الفيفا»، والحوكمة، وعدد الشركات الأجنبية، والقدرة الإلكترونية، وسرعة الإنترنت، وحرية الإعلام... وغيرها.
ومن بين المحاولات الجادة التى حاولت أن ترسى معايير لقياس «القوة الناعمة» تلك المحاولة التى أثمرت «مؤشر بورتلاند»، وهو مؤشر طورته مؤسسة بحثية أمريكية معتبرة بمساعدة عدد من الباحثين فى أهم الجامعات الأمريكية.
ويحدد المؤشر ستة عناصر لقياس «القوة الناعمة» فى أى دولة؛ على النحو التالى:
أولاً: الحكومة، وجودة المؤسسات السياسية، ومدى توافقها مع معايير الحكم الرشيد.
ثانياً: الانتشار الثقافى، بما يتضمنه من جودة الإنتاج الثقافى والمعرفى والفنى وتنافسيته.
ثالثاً: المشاركة العالمية والسياسة الخارجية.
رابعاً: التعليم، والسمعة العالمية لنظام التعليم العالى.
خامساً: الاقتصاد، وجاذبية الدولة الاقتصادية على صعيد الاستثمار وأداء المؤسسات.
سادساً: التواصل الرقمى للدولة.
يتضح من فحص هذه العناصر الستة أن مفهوم «القوة الناعمة» سياسى بامتياز، وأنه يبدأ بقدرة الحكومة على أن تحظى بالاحترام والاعتبار الدوليين، عبر التزامها أنماط أداء ديمقراطية ورشيدة، وعبر ما تظهره من احترام للحريات وحقوق الإنسان.
ثم يأتى الانتشار الثقافى الذى تلعب فيه الثقافة والفنون الدور الأهم، قبل أن تظهر المشاركة العالمية والسياسة الخارجية، ثم التعليم، والاقتصاد، والتواصل الرقمى.
يتضح لنا من ذلك أن دولة تمتلك أفضل المطربين والفنانين وأجمل المناطق السياحية فى العالم لا يمكن أن تحرز نقاطاً كافية فى مؤشر «القوة الناعمة» إذا كانت حكومتها ديكتاتورية، أو الانتخابات العامة التى تجريها مزورة، أو حالة حقوق الإنسان بها مزرية.
يتضح لنا أيضاً أن دولة قد تمتلك أكبر عدد من الشعراء والممثلين قد لا تحتل مكانة متقدمة فى هذا المؤشر بالضرورة، إذا كانت تعانى مشكلات اقتصادية، أو تخفق فى خلق بيئة استثمارية فعالة.
ويظهر لنا أيضاً أن التعليم عنصر أساسى من عناصر إدراك «القوة الناعمة»، ليس فقط فى ما يتعلق بإتاحة فرصه لأبناء البلد، ولكن فى ما يتعلق بقدرة المنظومة التعليمية على أن تكون جاذبة للأجانب ليأتوا ويتعلموا عبرها، ويصبحوا فى وقت لاحق رصيداً مهماً للدولة وداعماً رئيسياً لها.
وببساطة أيضاً، ولتقريب الصورة عبر ضرب الأمثلة، فإن نزاهة الانتخابات فى بريطانيا، وكفاءة حكومتها، ونجاعة الإدارة العمومية للدولة، من أهم العوامل التى جعلتها تتربع على عرش «القوة الناعمة» فى 2016، كما أن القدرات التعليمية الفذة فى ألمانيا كانت عاملاً رئيسياً لاحتلالها مكانة متقدمة فى هذا المؤشر.
ورغم أن لبنان مثلاً يمتلك طاقة فنية وأدبية وسياحية خلابة ومؤثرة، فإنه سيأتى فى مرتبة لاحقة للإمارات، التى تفوقت بامتلاكها بنية سياسية فعالة، ومشاركة سياسية عالمية وإقليمية نشطة، وقدرات أكبر فى السياسة الخارجية، وسمعة اقتصادية براقة.
يتضح من هذا العرض أن مفهوم «القوة الناعمة» يخص الدولة والمجتمع فى آن، وأنه يجب أن يخضع لإدارة مركزية، تعمل على استيفاء جميع مؤشراته، وليس التركيز فقط على مفهوم «الغناء والرقص»، وأن ذلك المفهوم الواسع لا يدرك المرامى وحده، وإنما من خلال تضفيره مع مفهوم «القوة الصلبة».
إنه مفهوم يُخطَّط لإدراكه سياسياً، ويُدار سياسياً، وتُجنى ثماره سياسياً.