موضوع الطباخ الذى تم تقديمه كخبير أو كمحلل سياسى -كما وصف نفسه- عبر عدد من النوافذ الإعلامية، أثار لغطاً كبيراً. المشكلة ليست فى المحلل السياسى الذى لا يعيبه أن يكون طباخاً أو بائع ساندوتشات، المشكلة فى البرامج والجرائد التى استعانت به، لمجرد أنه «يرغى بكلام» -انطلاقاً من أن الإعلام برمته أصبح ساحة للرغى- يتناغم مع توجّهات القائمين على البرامج، والسياسة العامة التى تحكم القناة، ببساطة الضيف المفضل لدى الكثير من البرامج هو الذى يقول الكلام المطلوب، بما يتناسب مع الظرف والمرحلة، فيمدح حين يكون المطلوب المدح، ويقدح حين يكون القدح مرغوباً، ولا يهم أن يكون طباخاً أو خبازاً أو نقاشاً. المهم أن يقول المطلوب.
المعدّ هو المسئول عن الاتصال بالمصادر فى البرامج التليفزيونية، وفى بعض الأحوال يوحى إليهم بما يُقال وما لا يُقال، حتى يخرج البرنامج على الصورة المطلوبة، كمنشور دعائى أو كمنشور تحريضى. الخطاب الإعلامى المصرى أصبح منذ مدة من الزمن يدور فى واحد من الفلكين: فلك الدعاية أو فلك التحريض. الدعاية أمرها مفهوم، فهى تعبّر عن رسائل تحمل دفاعاً وتبريراً للأحداث والسياسات، وتجتهد فى تعبئة الجمهور حول فكرة أو شخص أو مؤسسة معيّنة. أما «التحريض» فيعنى تحويل وسائل الإعلام إلى أدوات لتشويه الواقع والتركيز على سلبياته -سواء بالحق أو بالباطل- من أجل تأليب الناس، ودفعهم إلى تبنى اتجاهات مضادة له. كلا الأمرين، سواء ما يتعلق بالدعاية أو التحريض، يستلزم الاعتماد على مصادر للمعلومات تستطيع أن تُحقّق الهدف، وبالتالى يتم اللجوء إلى أى شخص من المعلوم عنه الاحترافية فى «غناء المواويل» فى حالة الدعاية، أو شخص مشهور بالقدرة على «الردح والهرى والتشويه» فى حالة التحريض.
ثنائية الدعاية والتحريض أخرجت الإعلام عن محض وظيفته، ودفعت الرأى العام إلى العزوف عنه، لأن لوسائل الإعلام أدواراً محدّدة، تتمثل فى تقديم المعلومات الصحيحة حول الأحداث، وتحليلها، من خلال شرح مغزاها ودلالاتها، والتعليق عليها بحيادية وموضوعية، بصورة تساعد المتلقى على تكوين وجهة نظر متوازنة حولها. الثنائية المقيتة (الدعاية/ التحريض) حوّلت الإعلام عن مفهوم «الدور والرسالة» وجعلته «سبوبة» يرتزق منها البعض. وللأسف الشديد فقد انخرط بعض العاملين فى مجال الإعلام فى هذا المولد، وحاول كل منهم «الاسترزاق» على طريقته. تعالَ على سبيل المثال إلى بعض المعدّين، لا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك أفراداً -أقول أفراداً لأن المجموع بخير- ممن يعملون فى إعداد البرامج المختلفة لا يتورّعون عن الحصول على مقابل لظهور المصادر فى البرامج التليفزيونية، طبقاً لتسعيرة محدّدة، ومن يعصمه الله من الزلل قد يتورّط فى المجاملة، والمجاملة لدى المصريين طبع أو جزء من تركيبة الشخصية. المجموع بالفعل لم يزل بخير، لكنه مشدود (من كل حتة)، هذه الشدة قد يكون أساسها العمل فى أكثر من مكان لتوفير «لقمة العيش»، وقد تتجلى فى أشكال أخرى كثيرة!.
والنتيجة التى ترتبت على حالة التشوه التى أصابت الإعلام المصرى أن تراجع أداؤه بشكل كبير، فلم يعد بمقدورنا منافسة غيرنا على أى مستوى من المستويات، حتى فى برامج «المنوعات» تفوق علينا الآخرون.. حتى التهليس لم يعد لدينا قدرة عليه.. قدراتنا أصبحت متمركزة فى «الطبيخ»!.