(١) صدرت الأوامر العليا من الواحد الديان، خالق الأرض والسماوات، وواهب الحياة والوجود إلى نبيه الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، سيد ولد آدم وإمام الأنبياء أن شاور صحابتك.. لا تبرم أمراً دون أخذ رأيهم، وليكون هذا الأسلوب نبراساً يستضىء به القادة والحكام المسلمون من بعدك.. استمع إليهم يا محمد، فهم صحابتك وأحبابك ومناصروك.. لعلك - وسوف تجد - رأياً صائباً وفكرة ملهمة ونظرة ثاقبة؛ فأنت وجميع أصحابك والأمة من بعدك - جيلاً وراء جيل - فى أمسّ الحاجة إليها.. «وشاورهم فى الأمر».. ما هذا الجلال والجمال والكمال.. المولى تعالى يريد منك يا محمد أن تعطى الدرس والمثل والقدوة للأجيال كلها، فليس - ولا يجب أن يكون - فى الإسلام طغيان أو ديكتاتورية أو استبداد.. المولى سبحانه يريد إنقاذ الأمة، والابتعاد بها عن المهالك، والارتقاء بها إلى أعلى درجات التقدم والازدهار، «فلا خاب من استشار، ولا خسر من استخار»..
(٢) من أجل هذا الفهم والسلوك والالتزام بالأمر الإلهى، سعيت لإنقاذ الجماعة، ومحاولة السير بها فى طريق الفلاح والنجاح، فجماعة بلا شورى حقيقية لا بد أن تكون سائرة فى طريق نهايتها، ومن ثم كان من الضرورى لوقفة جادة وحاسمة.. أما أن تتصور القيادة - أى قيادة - أنها ملكت زمام الأمر كله، فهذا هو طريق الندامة، وإن تصورت غير ذلك.. إن الاستغناء عن الشورى ومحاولة إقصائها بعيداً، بدعوى أن القيادة على مستوى عالٍ من القدرة والكفاءة والإخلاص ولديها من الخبرات والتجارب الكثير ما يغنى عن استشارة أحد، هو سلوك مخرب، فضلاً عن أنه مخالف لما أمر به الله تعالى.. هذه النوعية من القيادة تمثل ورماً سرطانياً داخل جسم الجماعة - أى جماعة - ومن ثم لا بد من جراحة عاجلة لاستئصاله وتخليص الجسم وإنقاذه منه، بدلاً من ترك الورم يستشرى ويتعاظم حتى يفاجأ الجميع به وقد فتك بالجسد كله.. هذا ما سوف نتحدث عنه فى نهاية هذه السلسلة من المقالات بإذن الله، سائلين إياه سبحانه أن يبارك فى الصحة والعمر، وأن يجعل هذا فى ميزان الحسنات، وأن يرزقنا التوفيق والسداد والإخلاص فى القول والعمل.
(٣) فى أول لقاء مع بعض أعضاء مجلس الشورى العام للجماعة، كنت رئيساً لجلسة هيئة المكتب، نظراً لغياب المرشد «عاكف».. حاولت جهدى أن أدع الفرصة لهؤلاء الأعضاء ليقولوا ما عندهم من أفكار ورؤى، وأن يدلوا بدلوهم عن تصورهم لدور عضو مجلس الشورى، وكيف أن لائحة الجماعة أعطت مجلس الشورى صلاحيات واسعة؛ مثل: إقرار السياسة العامة للجماعة، إجراء التعديلات المطلوبة فى اللائحة، مناقشة النشاط الذى يقوم به مكتب الإرشاد عن كل فترة، وإقراره أو التعديل عليه أو رفضه، انتخاب أعضاء مكتب الإرشاد، وتسمية المرشد... تحدث عدد قليل منهم حديثاً جيداً، لكن حديث الكثرة صدمنى وأذهلنى ودلَّ بوضوح على أنه لا توجد شورى فى الجماعة، وأنها مجرد صورة للتزين والتحلى.. قال أحدهم: إن ثقتنا بأعضاء مكتب الإرشاد تفوق الحدود، ويكفيهم أنهم يحملون هذه المسئولية الكبرى نيابة عنا، وما عليهم إلا أن يأمرونا فنطيع.. فهل بعد التضحيات الجسام التى يقدمونها من أوقاتهم وجهودهم وحرياتهم، نأتى نحن لنسائلهم ونحاسبهم؟
(٤) هل معقول أن يصدر هذا من عضو مجلس شورى الجماعة؟ أى نماذج هذه، وما هى القيم والمفاهيم التى نشأت وتربت عليها، وهل أريد لها أن تكون كذلك فى ظل ثقافة «السمع والطاعة والثقة فى القيادة»؟! أريدك عزيزى القارئ أن تتخيل معى؛ هل من الممكن لجماعة بهذا الشكل المخجل أن تحقق ولو بعض أهدافها؟ لقد كان هذا نموذجاً، مجرد نموذج لأعضاء كثيرين.. نموذج يستشرف مكانة أو منزلة أو موقعاً قريباً من قيادات بعينها، وهو يرى بذلك أنه يقدم أحلى ما عنده من أجل الجماعة.. شخصياً ودون تجاوز، رأيت هذا الموقف خيانة للأمانة وتكريساً للديكتاتورية والاستبداد داخل الجماعة، علاوة على الانحراف عن القيم التى أُمرنا أن نحملها.. حاولت أن أصحح هذا المفهوم المغلوط، وأن أبين الفارق الضخم بين الثقة والتقدير والاحترام الواجب تجاه أعضاء مكتب الإرشاد من ناحية، وبين أداء الواجب والقيام بالمسئولية نحو محاسبة المكتب على ممارساته من ناحية أخرى، على الأقل من باب النصيحة التى سماها رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) ديناً، إذ قال: الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» (أخرجه البخارى فى صحيحه عن تميم الدارى).. لكن يبدو أننى كنت أؤذن فى مالطة، وأغرد خارج السرب..
(٥) مع ذلك، تحدثت وقتها مع بعض الإخوان من أعضاء مجلس الشورى العام ممن كنت آنس فيهم رجاحة العقل وحسن الفهم، حول هذه القضية فقالوا: إن الطريق شاق وطويل ويحتاج إلى سنوات من الجهد المضنى، قدّرها بعضهم بـ ١٥ عاماً، والبعض الآخر بـ ٢٠ عاماً، الأمر الذى يحتاج بالفعل إلى تغيير جذرى فى لائحة الجماعة، ومن قبل ذلك وبعده، الصدق والإخلاص والوعى الصحيح.. أليست هذه مأساة؟! أن لائحة الجماعة تنص على أن مجلس الشورى يشمل: أ) أعضاء مكتب الإرشاد (١٦ عضواً)، ب) رؤساء المكاتب الإدارية الذين يتم اختيارهم بالانتخاب من مجالس شورى المكاتب الإدارية (٢٧-٢٨ عضواً)، ج) عدد محدود يخص كل محافظة - حسب كثافة الإخوان بها - وهو يتراوح بين ١ و١٠ أعضاء يتم اختيارهم كما رؤساء المكاتب الإدارية، وأخيراً د) عدد ١٥ عضواً يتم اختيارهم بالتعيين من قبل مكتب الإرشاد.. ويصل العدد الكلى لمجلس الشورى إلى نحو ١٠٠ عضو، مع ملاحظة أن قسماً كبيراً منه هو فى الحقيقة تنفيذى، مثل رؤساء المكاتب الإدارية، وأعضاء مكتب الإرشاد.. فإذا وضعنا فى حسباننا الـ ١٥ عضواً المعينين، لأمكننا القول إن أكثر من ٦٠٪ من مجلس الشورى هم تنفيذيون.. ومن ثم، مَن يحاسب مَن؟ فإذا أضفنا إلى ذلك أن النسبة الباقية وصلت إلى مواقعها عن طريق انتخابات صورية لا تخضع لأية معايير، فيمكن النظر إلى مجلس الشورى على أنه لم يكن يمثل شورى حقيقية (!)..