العاشق هو بليغ عبد الحميد حمدي مرسي، ابن حي شبرا القاهري وابن استاذ الفيزياء، كبر ونشأ على حب الألحان، حتى اتقن العود بسن التاسعة، حاول دراسة الموسيقى بتخصص لكن حالت سنه الصغيرة دون ذلك، واستمر بدراسته إلى أن درس الحقوق والتحق بعد ذلك بمعهد فؤاد الأول للموسيقى، فبرع بالموسيقى وفشل كمحام.
بالرغم من دراسته للمحاماة، إلا أنه كان متهما طيلة حياته بقضايا كلها عاطفي، ذاك المحب النزق، بوهيمي النزعة، كثير النسيان، غير المكترث بالأرقام والحسابات والجنيهات، يعيش الحياة كما هي دون قوانين، دون تخطيط، كريم، مضياف، سخي وأحيانا مبذر، روح غجرية منطلقة لا تحدوها حدود و لا تلزمها قيود. روح تهيم مع الألحان غزيرة الإنتاج، بحر هائج و فيضان.
في البداية أقنعه أستاذه بالغناء و بعد تسجيله لأربع أغنيات أدرك أن مكانه الحقيقي بالتلحين، وبالفعل لحن لأبرز نجوم الغناء، إلى أن وصل إلى محمد فوزي محتضن جيل الشباب ومن خلال شركة فوزي الخاصة أعطاه فرصة تلحين" تخونوه"، لعبدالحليم حافظ.
عرض فيلم الوسادة الخالية، وصدح عبدالحليم بـ "تخونوه"، وكان في مقاعد المتفرجين فتاة صغيرة، "وردة"، تلك البرعم الصغير لفرعين احدهما والدها الجزائري والفرع الاخر أمها اللبنانية البيروتية، ولأن أذنها موسيقية فقد أعجبت وفتنت بصانع اللحن ووعدت نفسها بأنها سوف تحبه وتحصل عليه زوجا، ولدت وردة الغناء في باريس وكبرت هناك حيث كان لوالدها نادٍ تعلمت فيه الغناء، ثم انتقلت إلى تونس ومنها الى لبنان لتغني الأغاني الخاصة بها، إلى أن جاءتها الفرصة الكبرى بالذهاب الى القاهرة كان ذلك في العام ١٩٦٠ لتقوم ببطولة فيلم "ألمظ وعبده الحامولي"، و اخيراً حدث كان اللقاء الذي تمنته بينها و بين بليغ حمدي و لحن لها (يا نخلتين في العلالي).
وأثناء اللقاء استدعت حماسه حبها الغيبي له لترسل ذبذبات خاصه يستقبلها هو بكل استسلام و خضوع ، ليقبل حب وردة ويرده اليها أضعافا مضاعفه، ليتحول من هارب من الزواج الى مُصِرٍ و حريص عليه، أحب بليغ وردة الجزائرية بعنف وأرهقته عيونها السوداء المخملية، واتفقا ان يتوجا حبهما بالزواج ، فتقدم بليغ لأبيها خاطبا ومخاطبا، فما كان من الأب إلا أن رشق عصاه بصدر بليغ موبخا (اخرج من بيتي )" أيها العربيد يا زير النساء".
خرج بليغ من بيت وردة و طارت وردة إلى الجزائر لتتزوج من أحد أقاربها الذي كان يعمل ضابطا، فضبط إيقاع حياتها بعيدا عن الفن وعن بليغ وعن مصر . استقرت وردة بالجزائر وأنجبت ولدا و بنتا و أصبحت زوجة و أم ، وظل حنين الطرب و الغناء يلوح بالأفق وبالهواء والأجواء إلى أن جاء عيد استقلال الجزائر، فدعاها الرئيس بو مدين إلى استقبال ضيوف الجزائر، وبالفعل ذهبت للاستقبال والاحتفاء والاحتفال وكان من بين الضيوف "بليغ"، عاد الحنين والشوق الدفين، عاد جامحا بالحب صادحا، ودندن بليغ على عوده وأوتار قلبه أغنيه خبأها لوردة (العيون السود)، عادت وردة لمنزلها تلك الليلة ولكنها حقيقة لم تعد.
ناقشت زوجها في العودة الى الفن، فخيرها بين الغناء وحياتها العائلية، لم تتردد واختارت أن تعود إلى ما كان، اعتزما هذه المرة على الزواج وبالفعل حضرت وردة للخطبة، فإذا ببليغ كثير النسيان والهذيان، يسافر إلى بيروت ناسيا موعد زواجه القاهري، وينتظره الجميع وردة والأصدقاء و ينتهي الْيَوْمَ دون بليغ.
وبيوم آخر دون تخطيط أو تدبير عام ١٩٧٢ وأثناء عقد قران نجوى فؤاد بمنزلها، يعقد قران آخر لبليغ ووردة كانت لبليغ تجربة زواج سابقة قبل وردة لم تستمر أكثر من عام، ثم مكث أعزبا عشر سنوات، يغازل ويعشق ويحب ويؤلف الأغاني، وبزواجه من وردة تحول إلى زوج، لم يتحمل قيود الزوجية أكثر من ست سنوات، كذلك وردة قالت كفى لا أستطيع الاستمرار، ولم تحب تلحينه لغيرها ولا تقرب المطربات إليه وأصرت على الطلاق، خاطبها معاتبا بأنها ظلمته و قتلته ببعدها، لكن وردة اتخذت قرارها.
شغل بليغ بأعماله الغزيرة وإنتاجه المتدفق وشغل منافسوه بحسده والغيرة منه، كان سخاءه وكرمه غزيرين أيضا وذَات ليلة وككل ليلة دعا الأصدقاء والرفاق للسهر وكرم الضيافة، و سقطت إحدى ضيفاته من الشرفة فاتهم بقتلها وهرب إلى اليونان ثم باريس، هناك اشتد مرض الكبد عليه وضاعف من آلامه الغربة والوحدة، وهناك عانى السخي المترف من الفقر و الضعف، و جلس يخط الخطابات للأصدقاء والمعارف جميعا يشكو لهم ما أصابه، وأنه يحتاج العودة لمصر التي عشقها بجنون ولا مجيب، وصل إلى وردة خبر تلك الخطابات فبكت وذهبت لوزير الداخلية وقتها تطلب منه رجوع بليغ بأي شكل وبالفعل تعهد لها بمراعاة ظرفه والسماح له بدخول البلاد.
استقبلته وردة بالمحبة وعاش وقتا قصيرا بعدها ثم مات، لتموت وردة بعده بسنوات كثيرة تحكي عن ما جمعهما وما فرقهما و تقول انها تفهمته بشكل أعمق بعد الانفصال. وردة وبليغ قصة حب نعيشها دوما حينما نستمع لإبداعاتهما ومع أغنية "العيون السود" نفهم تماما ما حدث بينهما.