وإذ نواصل حديثنا عن «دولة المواطنة» باعتبارها الركيزة الأولى لصناعة الدولة القوية، نشير إلى أحد الأحكام القضائية التى تستحق أن تكتب بمداد من ذهب، ونعنى به الحكم الصادر عن محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية الدائرة الأولى بالبحيرة، والتى كان يرأسها آنذاك المستشار الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجى، والذى أكد حظر المحاباة فى الالتحاق بالتعليم، واعتبار توريث الأبناء فى وظائف الآباء جريمة للتمييز والحض على الكراهية. وتتعلق وقائع هذا الحكم بطالب حاصل على الشهادة الإعدادية للعام الدراسى 2013/ 2014 بمجموع 259 من 300، الذى تقدم للقبول فى المدرسة الثانوية الفنية لمياه الشرب والصرف الصحى، الخاضعة لإشراف التربية والتعليم بالبحيرة، بناءً على إعلان رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحى عن فتح مكتب التنسيق لقبول دفعة جديدة بالمدرسة، للعام الدراسى 2014/2015م، بمجموع لا يقل عن 250 درجة من 300 درجة. وإزاء ازدياد أعداد المتقدمين، يبدو أن المدرسة قبلت فقط الحاصلين على مجموع لا يقل عن 282 درجة. ومع ذلك، كشفت الأوراق أن المدرسة قبلت طالباً حاصلاً على شهادة الإعدادية بمجموع كلى 254.5 درجة فقط، استناداً إلى الشهادة الصادرة من رئيس مجلس إدارة شركة مياه الشرب والصرف الصحى بمطروح الموجه إلى رئيس مجلس إدارة شركة مياه الشرب بمحافظة البحيرة، تأسيساً على أن والده يعمل بالشركة بفرع مطروح، وبحجة أن الشركة تحتاج إلى فنيى شبكات صرف ومياه وفنيى تشغيل. وقد أكدت المحكمة فى حكمها أن «هذا الكتاب يمثل إخلالاً جسيماً بمبدأى المساواة وتكافؤ الفرص بين الطلاب، وهما من المبادئ الدستورية الأصيلة، فضلاً عما فيه من تكريس للمحاباة فى الالتحاق بالتعليم، وهو الأمر المحظور دستورياً، وما كان ينبغى على رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة مياه الشرب والصرف الصحى بمطروح، وهو على قمة الشركة، أن يرسل خطاباً يستثنى فيه ابن المدعى للالتحاق بالمدرسة على خلاف قواعد الحد الأدنى للحاصلين على الإعدادية بمحافظة البحيرة. وما كان يجب على رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة مياه الشرب بمحافظة البحيرة أن يقبلها وأن يضعها موضع التنفيذ. بل إن رئيس الشركة الأولى تجاوز أبسط قواعد العدالة وضمن للطالب وظيفة عمل بالشركة قبل التحاقه بالمدرسة أصلاً، على الرغم من أن الوظائف العامة ليست حكراً على أبناء العاملين بها، ولا تورث لهم، فلا يجوز لكبار المسئولين فى الدولة بعد ثورة 25 يناير 2011 مخالفة الأهداف التى سعى إليها الشعب للقضاء على أى فساد أو استبداد ولرفع الظلم عن الشعب الذى عانى طويلاً من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية باعتباره حقاً لكل مواطن».
وفى حيثيات حكمها، تقول المحكمة إن المشرع الدستورى ألزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، دون تمييز، والمواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والحريات والواجبات العامة، لا تمييز بينهم، مضيفة أن التمييز والحض على الكراهية جريمة يعاقب عليها القانون، وأنه على الدولة اتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على كافة أشكال التمييز. والواقع أن إلغاء القرار الإدارى التمييزى لم يعد كافياً، ويلزم أن يتدخل المشرع لتجريم السلوكيات والممارسات التى تنطوى على تمييز فى الوظائف وغيرها من حقوق المواطنة. ولابد أن يعى كل مسئول أنه بسلوكه التمييزى يعرض نفسه للمساءلة الجنائية. ولذلك، أهيب بمجلس النواب الإسراع فى مناقشة مشروع قانون المواطنة وعدم التمييز، الذى نشرت بعض الصحف نصوصاً منه فى الأول من يونيو 2016م. ويحسب للمادة الأولى من هذا المشروع أنها استخدمت عبارة موجزة بليغة فى مبناها عظيمة فى معناها، وهى أن «المواطنة أساس الدولة». وتحظر المادة الرابعة من المشروع على كافة أجهزة الدولة وشركات قطاع الأعمال العام والخاص التمييز بين المواطنين فى شغل الوظائف الشاغرة، ويعاقب بالحبس كل من يثبت مخالفته لهذه المادة بناء على شكوى يتقدم بها المتضرر من التمييز إلى مفوضية مكافحة التمييز.
إن توريث الأبناء وظائف الآباء جريمة تنتهك أبسط قواعد المواطنة وتخل بمبدأ المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون دونما تفرقة أو تمييز بينهم. إن القناعة بعدالة المجتمع هى التى تقى الدولة من تيارات الإرهاب الذى يجتاح المنطقة العربية، وتحول دون انسياق الشباب وجرهم إلى مستنقع التطرف.. والله من وراء القصد.