مصريون يروون تجربتهم مع «الخلفة الكتير»: غلطة
«الخلفة الكتير»
بيوتهم مزدحمة بالبشر، أرجاؤها تضج بزخم الحياة. صراخ مستمر وصخب لا ينقطعان سوى بالنوم. «مبروك جالك ولد» تهنئة اعتادوا عليها، يتبادلونها كل 9 أشهر، طفل يلى الآخر حتى وصل تعداد مصر بسببهم إلى 104.2 ملايين نسمة، أكل وشرب وتربية وتعليم وعلاج واهتمام ورعاية، كل ما يطلبونه أصبح غير متاح الآن بسبب الكثافة السكانية التى تلتهم كل نمو، الأسعار مرتفعة، الشوارع مزدحمة، التعليم لم يصبح مجانياً، والحياة الكريمة أيضاً لم تعد متاحة للجميع.
6 أبناء فى رقبة «سيد حسين»، أكبرهم 18 عاماً وأصغرهم عامان، يشعر وكأنهم يلتفون حول عنقه ويضغطون على أعصابه، والأموال التى يتحصل عليها شهرياً نظير عمله كخباز لا تكفيه، فالخمسة آلاف جنيه التى يتقاضاها لا يمسكها بيده، بل يودعها بكاملها إلى زوجته لتدبر احتياجات أسرته الكبيرة: «لو حسبت المصاريف هتجنن بسيبها كده وربنا بيسترها». خلال 16 عاماً زادت أسرة الرجل الأربعينى من فردين إلى ثمانية. كان يعتقد أن «العيال عزوة». تربى على ذلك المفهوم وصم أذنيه عن برامج تنظيم الأسرة التى كانت تشغل حيزاً كبيراً فى السابق قبل أن تختفى تماماً، ليصل عدد سكان مصر إلى 104 ملايين نسمة: «زمان مكنش فيه مشكلة فى الخلفة، الأسعار كانت رخيصة والعيال بتطلع، دلوقتى الأسعار تهد الحيل والنتيجة أهو ولا عيل اتعلم».
ظروفه المعيشية الصعبة مقارنة بغيره ممن يحصلون على مرتب أقل منه، تخنق «سيد» أحياناً وتدفعه إلى التفكير فى العمل فترة ثانية: «ابنى الصغير عنده سنتين بياخد مصاريف لوحده ألف جنيه عصير وبامبرز مش بجيبله لبن والعيال الكبيرة ماعرفتش أعلمهم، هجيب مصاريف المدارس منين وأنا يدوب مكفّى الأكل والشرب بالعافية». وبحسب «سيد»، فإن سكنه فى شقة إيجار قديم بالدقى هو ما أنقذه إلى حد ما من موجات ارتفاع الأسعار: «بدفع إيجار 80 جنيه وفواتير 250 جنيه، عايشين على الفراخ، ما نقدرش على أسعار اللحمة».
«العيال رزق من ربنا».. كانت الكلمة لا تفارق لسان محمد بخات، نجار، الآن يود لو يقطع لسانه بعد أن أنجب 9 أبناء، 4 أولاد و5 بنات، يقلبون منزله رأساً على عقب، حتى أصبح لا يطيق الجلوس فيه أكثر من بضع ساعات: «ده أنا فى مصيبة، مراتى لسه والدة العيل التاسع امبارح». فى كل مرة كان «بخات» يتفق مع زوجته على أن تكون تلك هى المرة الأخيرة، لكنه سرعان ما يتراجع ويفكر فى إنجاب آخر مقتنعاً بمقولة «كل عيل بييجى برزقه».
لم تتوقف عجلة الزيادة السكانية فى منزل «بخات» حتى وصل عدد أفراد الأسرة إلى 11: «ربنا وحده اللى يعلم الواحد عايش إزاى خصوصاً فى الفترة الأخيرة وبعد ارتفاع الأسعار، الدنيا نار ومحدش عارف يأكل بقّين تلاتة، أنا بأكل 8 ده غير التاسع الجديد، ربنا يتولانا».
رغم شظف العيش، حرص «بخات» على تعليم أبنائه حتى لو بالتعليم الفنى، لكن لم يستجب كلهم بالدرجة نفسها، ابنه الأكبر فى الثانوى الصناعى، والأصغر منه ترك التعليم منذ المرحلة الابتدائية: «اللى عايز يتعلم دخلته تعليم فنى واللى ملوش فى العلام خليته يشتغل ويشيل نفسه فى المصاريف».
موظف حكومى راتبه محدود، وفى حوزته 6 أبناء، وضع ربما يقود صاحبه إلى الجنان لكن يُحسب لـ«أحمد شعبان» أنه ما زال متماسكاً: «الحمد لله 3 اتجوزوا، و3 لسه فى رقبتى، لكن أسعار اليومين دول مخلية الواحد بيصرف قد اللى كان بيصرفه لما كان معاه 6 عيال». يتقاضى «شعبان» 1500 جنيه شهرياً تنتهى قبل حلول منتصف الشهر، ولذا يعمل بعد العصر فى بيع العطور والمصاحف أمام المساجد: «دى ضريبة اللى يخلف كتير ومايعملش حساب يوم زى الأيام اللى إحنا عايشينها دلوقتى».
رغم كثرة المصريين من محبى الإنجاب، فإن محمد عبدالحميد، 56 عاماً، حالة فريدة، فالرجل الذى يعمل سائقاً بالنقل الثقيل، لديه 21 ابناً، وينتظر حالياً مولد ابنه الـ22 من زوجته الرابعة: «بنسى أسامى العيال من كترهم، بنسى اطمنت على مين ونسيت مين، ده أنا بنسى مين اللى اتجوز ومين قاعد.. هو أنا مخى دفتر!». تسير الحياة رغم صعوبتها فى بيوت «الحاج محمد»، من خلال مساعدة أولاده الشباب والإنفاق بدلاً عنه: «اللى يكبر من الولاد يشتغل سواق زيى ويصرف على أمه وأخواته»، أفضل مؤهل تعليمى حصل عليه أبناؤه هو الدبلوم: «فيه اللى طلع من ابتدائى، ومش عايز يكمل وقعد فى البيت».