تعلن شركة... عن قيام رحلتها رقم.. المتوجهة إلى مطار..
هكذا تكون البداية دائماً لإحدى تلك التجارب الإنسانية الأكثر ثراء.. لنضيف مزيداً من الحيوات إلى حياتنا فى عالم لا يتوقف عن إدهاشنا.. أعشق الترحال.. يأخذنى من نفسى.. من واقع أرهقنى كثيراً.. رهن جسدى قيد الإقامة الجبرية فى حيز من الزمان والمكان فرضه عليه.. بينما تظل الروح متمردة دائماً على السكون.. يأخذنى السفر إلى عالم الافتراضات ومنح القدر فرصة اللقاء ولو صدفة بأحد أحلامى المحلقة هنالك حد الأفق الرابض بعيداً.. تزعجنى مظاهر الترف المادى فى تمييز درجات السفر وتهافت البعض على إنفاق ما يعول أسرة متوسطة لمدة شهر كامل، لا أعتقد أنه من أجل مقعد أكثر وثارة، بل من أجل تصنيف أكثر تمييزاً.. أحمل مشاعر احترام لنجمة هوليوود الساطعة إنجيلينا جولى التى ترفض هى وعائلتها الكبيرة السفر فى الدرجة الأولى مفضلة إهداء قيمة ذلك الاستمتاع اللحظى للواقفين يتضورون جوعاً على حدود بلد ما فى مخيمات قذرة للاجئين.. ابتسامة رسمية من ضابط الجوازات يلقيها وهو يتفحص أوراقى قبل أن يعلن ختم الدولة المصرية فى صفحة جواز مرورى أننى لم أعد على أرضها ولا متلفحة بسمائها.. أخضع لتفتيش دقيق على خط وداع الوطن.. أخلع حذائى.. ساعتى.. أساور تزين معصمى.. يستمر عناد جهاز كشف المعادن بإطلاق إنذاراته الغبية التى لا تميز بين قنبلة قاتلة وحلى النساء.. أتخلى عن خاتم أعتز به وعقد ممدد على جيدى فى هدوء.. حتى يرضى الجهاز أخيراً ويقبل مرورى بصمت.. أطمئن مفتشتى بابتسامة تشجيع.. لست غاضبة فلتتقن عملها وكفانا تراخياً.. أسلم لها نفسى عن طيب خاطر تبحث بين الطيات.. أقبل بشكوكها الروتينية.. ألملم أشيائى.. ألقى نظرة أخيرة على الوطن.. تنتابنى خواطر الرحيل بلحظات شجون خفية.. إن الذى فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد.. آيات علمتنى جدتى أن أكررها تيمناً بالعودة.. لو كان فى العمر بقية.. فهل يفلح دعاء الضعيف؟ لأتذكر ارتباط السفر فى الحواديت والأساطير بـ7 فوائد لم أعرفها أبداً بينما اكتفى الشافعى بـ5 منها فى أبياته البليغة.. تغرب عن الأوطان فى طلب.. وسافر ففى الأسفار خمس فوائد.. تفرج الهم واكتساب معيشة.. وعلم وأدب وصحبة ماجد.. فإن قيل فى الأسفار ذل ومحنة.. وقطع الفيافى وارتكاب الشدائد.. فموت الفتى خير له من قيامه.. بدار هوان بين واشٍ وحاسد.
أتوجه إلى طابور الصعود إلى الطائرة الرابضة فى الانتظار تقتحمنى على بابها ابتسامات ودودة بمهنية ولكنها وجوه ليست من بلادى، أتذكر بحزن سوء إدارة يجعل ارتياد خطوط طيراننا الوطنى أمراً صعب المنال فى ظل مبالغة فى غلاء وضعف خدمات يقذفنا إلى أحضان الآخرين.. يتلقفنى مقعد أتعبته كثرة الراحلين بهمومهم وأحلامهم التى لا تنتهى.. فى تأمل اللحظات الأخيرة قبل الرحيل.. أتذكر حديث أدهم ابنى مندهشاً من حقيقة تاريخية مؤلمة بعد أن أصبح حلم أغلب الشباب السفر ولو بإلقاء أنفسهم فى غياهب البحر فى مخاطرة قاتلة.. بينما كان الرحيل من الوطن قديماً هو عقوبة بديلة للإعدام ومساوية له لمن يراد التنكيل به كرموز الكفاح الوطنى.. حيث تم نفى الزعيم أحمد عرابى والنديم والبارودى إلى سيريلانكا وبعد 20 عاماً يعود أحمد عرابى وقد أحضر معه لمصر شجرة المانجو لأول مرة سنة 1903.. بينما تم نفى سعد زغلول لجزيرة مالطا سنة 1919 ما أضرم ثورة شعبية ثم إلى جزيرة سيشيل سنة 1921.. حتى أمير الشعراء لم ينج من تلك العقوبة القاسية فى بدايات القرن ليكتب أجمل ما يقال عن الوطن.. ومن أبياته بلا ترتيب
وسلا مصر هل سلا القلب عنها.. أو أسا جرحه الزمان المؤسى.. وطنى لو شغلت بالخلد عنه.. نازعتنى إليه فى الخلد نفسى.. أحرام على بلابله الدوح.. حلال للطير من كل جنس.
ينتشلنى من أفكارى صوت قائد الطائرة يعلن الاستعداد للإقلاع.. وما زالت أغنية الحدود للمبدعين عمر بطيشة وعمار الشريعى هى آخر ما يغمرنى ويرن فى أذنى وأنا فى لحظات الرحيل عن أم الدنيا لتنطلق الرحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. ولأن حياة واحدة لا تكفى.. اقرأ.. اسمع.. شاهد.. سافر.. وللحديث بقية.