لا يزال الحديث عن «دولة المواطنة» مستمراً، حيث نرى من الضرورى الإشارة إلى بعض أحكام القضاء الإدارى، التى أعطت الحق لأوائل كليات القانون فى التعيين بالهيئات القضائية، رافضة استبعادهم لحجج واهية. ففى أحد هذه الأحكام، قضت المحكمة الإدارية العليا بإلغاء قرار تخطى الأول على إحدى كليات الحقوق فى التعيين فى وظيفة قضائية. وفى حيثيات هذا الحكم، تقول المحكمة إن «القضاء -بكل صوره- ولاية وأمانة ينوء عن الكاهل حملها، لما تقوم عليه من الصدع بالحق فيما يعرض فى ساحاته من منازعات، فالضعيف عنده قوى حتى يأخذ الحق له، والقوى عنده ضعيف حتى يأخذ الحق منه. وإن كان اختيار من يعينون بالهيئات القضائية -على اختلافها- قد نيط بالمجالس العليا لهذه الهيئات التى يتبوأ أعضاؤها ذروة سنام هذه الهيئات، وأن المحكمة تقدر ما لهم من قدرة على وزن الأمور وما يتمتعون به من بسطة فى السلطة والتقدير، فإنه لا جدال فى أن هذه السلطة تجد حدها فى ضرورة الانصياع لما أوجبته المواثيق الدولية والدساتير والقوانين من المساواة بين الأفراد وعدم التمييز بينهم بغير مبرر موضوعى، وأن يجازى المرء على قدر سعيه، وألا يكون للإنسان إلا ما سعى».
وأردفت المحكمة أن «التفوق الملحوظ فى الشهادات الحاصل عليها من يتقدمون للالتحاق بهذه الهيئات، وما يقتضيه ذلك من أن يرتب المتقدمون للالتحاق بهذه الهيئات حسب تفوقهم الملحوظ وتميزهم المعلوم، بأن يكون لكل درجات مما عملوا، وبما مقتضاه ألا يتخطى من هم على رأس قائمة المتقدمين ممن بدا تفوقهم معلوماً وتميزهم ملحوظاً بمن يدنونهم تقديراً إلا بمبرر ظاهر -ينال من هذا التفوق- حيث تبسط المحكمة رقابتها عليه فتمحصه تمحيصاً وتزنه بميزان الحق وزناً يستريح به ضميرها راحة من أدى الأمانة -التى تطوق عنقه- على وجهها، فإن نكلت الجهة الإدارية وأعرضت ونأت بجانبها عن تقديم المبرر الذى استبعد بموجبه من بدا تفوقه وتميزه فى المؤهل اللازم لحمل أمانة القضاء ظاهراً، قامت عليها الحجة، وغدا تخطيها لمن كان تفوقه ملحوظاً بغير سند خليقاً بالإلغاء. ومن حيث إن الثابت من الأوراق أن الطاعن أظهر تفوقاً وتميزاً ملحوظاً بين أقرانه من ذات دفعته فى الكلية التى تخرج فيها، حيث حصل على تقدير جيد جداً وجاء ترتيبه على أقرانه الأول، وهو ما يشهد على أنه أحسن عملاً، مما كان يقتضى من السلطة القائمة على اختيار من يعينون فى وظيفة مندوب مساعد بمجلس الدولة اختياره، بعد أن أجدبت الأوراق مما يبرر هذا التخطى، الأمر الذى يغدو معه هذا التخطى بغير سند من الواقع أو القانون خليقاً بالإلغاء. ولا ينال من ذلك ما تذرعت به الجهة الإدارية من أن الطاعن لم يجتز المقابلة الشخصية، فقد جاء هذا الدفاع قولاً مرسلاً لا يظاهره دليل من الأوراق. والمحكمة تنأى بنفسها عن أن تساير الجهة الإدارية فى دفاعها هذا إذ من شأنه أن تتحول السلطة التقديرية لجهة الإدارة فى التعيين إلى سلطة مطلقة لا عقال يضبطها ولا رقيب عليها يراقبها، وهو ما يعد شيئاً نكراً من شأنه أن يجعل الرقابة القضائية على التعيين فى تلك الوظائف هباءً منثوراً».
إن محنة مصر الممتدة منذ عدة عقود تجد سببها فى شيوع الوساطة والمحسوبية، وما ترتب عليها من إزاحة الأذكياء من الوزارات والهيئات والكثير من مؤسسات الدولة، وتولية من هم أقل كفاءة. ومن حسن حظ أى دولة فى العالم أن يدير الأذكياء الاقتصاد والسياسات العامة فى بلادهم، ومن سوء حظ أى بلد أن يتم تنحية هؤلاء عن مراكز صنع القرار. ولذلك، قيل بحق إن «إهدار الذكاء العام أخطر من إهدار المال العام». إن دولة المواطنة الحقيقية لن تتحقق، ولا يمكن أن نرى «الدولة القوية» حقيقة وواقعاً إلا بإرساء معيار الكفاءة. إن واحداً من أفضل التفسيرات لبقاء أمريكا الأقوى فى العالم بلا منافس، رغم تراجع ترتيبها فى مستويات الذكاء والتعليم، هو أن الجزء الذكى هو الذى يدير، وهو الذى يخطِّط ويقرِّر.. والله من وراء القصد.