يبدو أن شهر أكتوبر، الذى يحمل ذكرى الانتصار المصرى العظيم فى يومه السادس من عام 1973م، كما يأتى لكى يحيى فى نفوسنا ذكريات الفخر ببطولة الجيل الذى خاض حرب تحرير الأرض، أصبح فى الأونة الأخيرة يأتى محملاً بموجة عاتية من الأكاذيب تستهدف تشويش وقائع هذه الملحمة الفريدة التى أجمع أصحابها وأبطالها وغيرهم من المدققين المنصفين أنها حرب طويلة بدأت صباح 11 يونيو 1967م، وسجلت أولى معاركها فى «رأس العش» حيث دارت على حواف مدينة «بورفؤاد»، فى الأول من يوليو بعد «19 يوماً» فقط من التاريخ السابق، وانتهت بنجاح قوة الموقع العسكرى مدعوماً بفصيلة من قوات الصاعقة، فى صد هجوم شرس بالمدرعات الإسرائيلية كان يستهدف احتلال «بورفؤاد».
بعد أن سجلت رسمياً «معركة رأس العش» فى التاريخ العسكرى، البعض نسبها إلى «حرب الاستنزاف»، واعتبرها الشرارة التى امتدت بها لثلاث سنوات كاملة. ليأتى بعد ذلك من يضع تلك الحرب وفق أحدث علوم التحليل العسكرى، كفصل تمهيدى لـ«حرب أكتوبر» يمثل جزءاً من وحدة عضوية لا يمكن الفصل بينهما، باعتبارهما حربين منفصلتين. وهو أحد الآراء التأريخية التى استندت على مجموعة ضخمة من المعطيات، انطلقت من استحالة القيام بالعمل العسكرى المتكامل فى 1973 من دون خوض فصل «الاستنزاف»، وربطت تلك الآراء تحليلها بوقائع ونتائج عسكرية تمت على الأرض، بدأ العمل عليها فى أعوام 67 و68 و69، بل وامتد الإمساك بذات الخيوط لضمان استمرارية تعاقب الفصول خلال أعوام «وقف إطلاق النار» 70 و71 و72 وصولاً لأكتوبر 73. وفى هذا الأخير دارت وقائع ملحمة الفصل الختامى الذى كلل جهد المنظومة «المعقدة»، بالنصر والتحرير الذى لم ينفصل عن أطراف خيوطه الأولية.
وضعت انحيازى فى جانب ذلك التقدير العسكرى، من خلال قراءة معمقة لـ«كل» الشهادات والسير الذاتية لقيادات الجيش المصرى، الذين تولوا مناصب ومراكز تسمح لهم بالرؤية الكلية للأحداث والوقائع «الكثيفة»، مما دفعهم لتسجيل تلك الشهادات فى كتب فصّلت الكثير من تلك الرؤى. وللعلم فإن عدد الكتب ليس كبيراً، مما يسمح بالاطمئنان لذكر تعبير الـ«كل»، وهو مما يحزن فعلياً بالنظر إلى ضخامة الحدث الممتد، ويضيف اليوم عبئاً نفسياً إضافياً فى مواجهة من يطلقون الأكاذيب والافتراءات على تلك الأحداث بل وبعض النتائج. وهذا الفعل الأخير لم يستطع أن يطل برأسه فى الحقبة الأولى التى تلت الحرب، بل لزمه سنوات كى تتم المراهنة على الذاكرة التى لم تتماسك بالتوثيق الجيد والنشر المكثف لحدث بحجم «الصراع العسكرى» ما بين مصر وإسرائيل.
خرجت إسرائيل فى الذكرى الـ40 لحرب أكتوبر عام 2013 لتروج بشكل واسع لفرية عظيمة تتحدث بأن حرب 73 لم ولا تسجل نصراً للجيش المصرى. ومثّل هذا فى حينه أولى الرقصات الفاضحة على حبال ذاكرة الأجيال الجديدة المصرية والإسرائيلية، بضمان زائف أن معاصرى الحدث إما غيّبتهم الوفاة أو أسكتتهم سنوات العمر الطويل.
وقد رددت على هذا الطرح فى حينه بإحالة من شد اهتمامه مثل تلك المزاعم إلى منتجَيْن إسرائيلييْن تامَّى الصنع، هما تقرير «لجنة أجرانات» وكتاب «التقصير» الصادران عامى 74 و75، وكلاهما منشوران بكافة وسائل النشر حتى اليوم، حتى وإن تم التعتيم عليهما بستار كثيف بغية تغييبهما عن مشهد التأريخ البحثى. وعفواً لعدم التفصيل فى تلك النقطة على أهميتها، فربما يمكن اعتبارها من المتوقع التعرض إليه من الطرف المقابل فى معادلة الصراع العسكرى، إنما يستهدف هذا المقال وما يليه من مقالات «إن قدّر الله»، ما قد هبّ حديثاً من الجانب الروسى مستهدفاً فعلاً مماثلاً على ذات الذاكرة ويضرب بقوة فى صلب وقائع هذا الحدث.
على كثير من وسائل الإعلام الروسية، ظهرت تزامناً مع حلول ذكرى هذا العام لحرب أكتوبر، تقارير ومقاطع مصورة تُنشر للمرة الأولى، إن لم تخُنى دقة المتابعة، تتحدث عن أسرار يُكشف النقاب عنها وفق الرواية الروسية للمرة الأولى، البعض منها ذكر بأن هناك «طلعات جوية» للاستطلاع والتصوير، قامت بها طائرات تابعة لسلاح الجو السوفييتى فى حينه، على ارتفاعات شاهقة تتجاوز قدرات الدفاعات الجوية الإسرائيلية، ورادارات الرصد التى كانت تستخدمها فى هذه الفترة، وقد نُفذت تلك الطلعات من خارج الأراضى المصرية لكنها تمكنت من القيام بعمليات تصوير جوى لجبهة القتال، والمقصود به سيناء وجزء من الضفة الغربية للقناة. وأنها قد زودت الجانب المصرى بتلك الصور الجوية «المؤثرة» التى ساعدت القوات المصرية فى عملياتها العسكرية ضد الجيش الإسرائيلى.
وذهب البعض إلى أبعد كثيراً من ذلك، ليذكر فى أحاديث مختلطة بها قدر من الغموض المتعمد، مشاركة الطيران الروسى فى تنفيذ «الضربة الجوية» المصرية التى افتتح بها الجيش المصرى عملياته العسكرية فى حرب أكتوبر.
جاء قصد إثارة ذلك كنوع من اختبار مرور إعلامى مبدئى، سيضاف إليه المزيد لاحقاً دون شك. وسائل الإعلام الروسية التى ذكرت ذلك جاءت ببعض الجنرالات القدامى الذين تم تعريفهم على شاشاتها بأنهم كانوا ضمن القوات الجوية السوفيتية فى حينه. البعض منهم قال: أعلم، وآخرون اكتفوا بأنهم سمعوا عن زملاء لهم، واكتفى البعض بالإشادة بتلك «الضربة الجوية» ودورها فى سياق العمل العسكرى المتكامل الذى انطلق بعدها، بغية تصوير الأمر باعتباره تحليلاً عسكرياً رصيناً يقيّم سير المعارك، ووسط الحديث لا يضير الأمر أن يضع القوات العسكرية السوفييتية فى مناطق من الأحداث، لم يتوافر لها فى الواقع شىء منها بالمطلق، على الأقل على «الجبهة المصرية» وهو من المعلوم لدينا يقيناً. تماماً كما نعلم بالضرورة أن تلك الأحاديث لا تمت للحقيقة بصلة، وهذا وفق وثائق حرب أكتوبر 1973 وشهادات قاداتها ومقاتليها، وهو ما سنتناوله الأسبوع المقبل، بمشيئة الله تعالى.