السعودية راهنت على أمريكا لعقود طويلة، حتى إن ملوكها لم يخطوا عتبات «الكرملين» قبل زيارة «سلمان» الأخيرة، رهان كلفها الكثير؛ صفاقة وتطاول، تمشدق بهما «ترامب» علانية، إلى حد وصف المملكة بـ«البقرة الحلوب»، وابتزاز مادى كان آخره قرابة 350 مليار دولار، ولم يؤد ذلك لوقف تمدد إيران، أو حصار نفوذها بالمنطقة.. السعودية كانت «مخلب القط» فى إسقاط الاتحاد السوفيتى؛ بحشد الجهاديين، وتخفيض أسعار النفط، ولعل ذلك يفسر حساسية موسكو تجاهها، إلى حد تدخلها العسكرى المباشر فى سوريا سبتمبر 2015، بمجرد بدء المملكة فى تجنيد وتدريب مجموعات جديدة من المعارضة.. السياسة السعودية فى عهد «سلمان» تتسم بالديناميكية، أدركت أن التدخل الروسى والتوارى الأمريكى قلبا موازين القوى بالمنطقة، بحيث أضحت موسكو رقماً رئيسياً فى كافة معادلات الصراع؛ نجحت فى تثبيت نظام الأسد.. دعمت موقف إيران المساند للحوثيين فى اليمن.. تسعى للتدخل كوسيط فى الأزمة القطرية، جولة وزير خارجيتها فى الكويت وقطر والإمارات إبان زيارة «سلمان» لموسكو تصب فى هذا الاتجاه، رغم أنها أكثر ميلاً لقطر بحكم استثمارات تجاوزت 15 مليار دولار فى روسيا، وانحياز تركيا وإيران، حلفاء موسكو، للدوحة.. السعودية لم يعد يشغلها استمرار «الأسد» من عدمه، وإنما تسعى لأن تقوم روسيا بتحجيم النفوذ الإيرانى بسوريا ودول المنطقة، بينما تتدارك هى أخطاء التناول الطائفى للأزمات السياسية، باستقبالها الزعيم الشيعى مقتدى الصدر، محاولة إحياء المرجعيّة الشيعيّة العربيّة، فى النجف وكربلاء، بعيداً عن قمّ، فمتى تتقبل المملكة استعادة الدولة السورية لمقعدها فى الجامعة العربية، ملجأها القديم بعيداً عن طهران؟!.. نعم يا طويل العمر، هكذا تورد الإبل.
المملكة تستخدم النفط كسلاح منذ حرب أكتوبر 1973، روسيا عانت منه الكثير، منذ أن أدى انهيار أسعاره لتفكك الكتلة الشيوعية، تكلفة استخراج النفط العربى تتراوح بين 2 و6 دولارات للبرميل فى الآبار غزيرة الإنتاج، ترتفع لـ12 فى الآبار ذات التكلفة العالية، بينما تصل لـ30 فى الآبار الروسية، ما يعزز تنافسية النفط العربى، ويوفر أداة ضغط.. هبوط الأسعار نهاية 2014 كان نتيجة اتفاق أمريكى سعودى ضمن إجراءات الحصار ضد موسكو وطهران، المملكة اقتحمت أسواق أوروبا، ووقعت خلال زيارة «سلمان» لبكين 14 اتفاقاً لصفقات قيمتها 65 مليار دولار، خصماً من حصة روسيا، ما سبب خسارتها لـ900 مليار دولار من ناتجها المحلى فى عامين، لكن سياسة الإغراق أضرت السعودية أيضاً، خاصة بعد نجاح منتجى النفط الصخرى فى خفض تكلفته، إلى الحد الذى أصبح منافساً للنفط الخام، موازنة المملكة 2017 تضمنت 890 مليار ريال نفقات، مقابل 692 ملياراً إيرادات، بعجز مُقدر 198 مليار ريال «يعادل 52.8 مليار دولار»، ما يفسر تجاوبها مع سعى روسيا لضبط الأسعار، والاتفاق مع 24 دولة منتجة على خفض الإنتاج لـ1.8 مليون برميل/يوم ديسمبر 2016، لمدة ستة أشهر، تم تمديدها حتى مارس المقبل، والتوافق على تجديده لنهاية 2018، مما رفع سعر البرميل من أقل من 30 دولاراً إلى قرابة 55 دولاراً.
روسيا تدرك أن اتفاقاتها مع المملكة عرضة للإجهاض بفعل ضغوط واشنطن، على نحو ما تم من تسريب ويكيليكس لنصف مليون وثيقة للمخابرات والخارجية والداخلية السعودية عقب زيارة «بن سلمان» لموسكو 2015، لذلك حرصت على ألا تتخذ الصفقات الطابع التجارى، وانما تتحول إلى توطين للصناعات العسكرية والاستراتيجية بالمملكة.. فى الوقت الذى رفضت فيه أمريكا بيع طائرات F-35 للسعودية، حفاظاً على التفوق الجوى لإسرائيل، وافقت موسكو على تولى الشركة السعودية للصناعات العسكرية، وليست وزارة الدفاع، التعاقد على منظومات تسليح متطورة؛ تريومف «S-400» الخاصة بالدفاع الجوى ضد الطائرات والصواريخ الباليستية، «Kornet-EM» المضاد للدبابات الموجه بالليزر، راجمات الصواريخ «TOS-1A»، راجمات القنابل «AGS-30»، والـ«كلاشنكوف AK- 103» وذخائره، مذكرة التفاهم تضمنت إنتاج كافة المنظومات فى المملكة بمشاركة محلية تتراوح بين 30 و50%، بما يفرضه ذلك من التزام الجانب الروسى بنقل المعرفة الفنية والملكية الفكرية والتقنية اللازمة للتصميم وهندسة الإنتاج والتطوير، وإعداد الكوادر المحلية الكفؤة، وينطبق ذلك أيضاً على الصفقات المدنية كمشروعات تحلية المياه، ترشيد الطاقة، إنتاجها من مصادر متجددة، الصناعات البتروكيماوية، وبناء 16 مفاعلاً نووياً.. مشروعات استراتيجية، طويلة المدى، تفرض زواجاً كاثوليكياً بين الرياض وموسكو.. «البنتاجون» أعرب عن قلقه، وخلال ساعات أُعلن موافقته على بيع نظام الدفاع الصاروخى المتطور «THAAD» للمملكة.. ولم يتبين حتى الآن ما إذا كانت الرياض قد حصلت بذلك على أحدث نظامين للدفاع الجوى فى العالم، أم أن موافقة «البنتاجون» كفيلة بإجهاض قرينتها الروسية؟!.
الدولة السعودية أدركت أن محور التحالف السياسى والعسكرى بين إيران وروسيا يمثل خطراً جدياً عليها، الميليشيات التابعة لطهران تطوقها من كافة الاتجاهات؛ حزب الله، الحرس الثورى، فيلق القدس، الحشد الشعبى، الحوثيون، المعارضة الشيعية بالخليج، وداخل السعودية نفسها، جميعها مزودة بأسلحة روسية، وتحظى بدعم موسكو السياسى.. مختلف الضغوط على لبنان لم تقوض نفوذ «حزب الله»، الدعم المباشر للتنظيمات السنية المسلحة والمعارضة بسوريا ضاع هباءً، وتغلب النظام.. حرب اليمن لم تزعزع سيطرة الحوثيين على العاصمة.. انتصارات الجيش العراقى المدعوم بالحشد الشعبى محسوبة لإيران، وتوسع من نفوذها.. وتطور البرنامج النووى الإيرانى أضحى واقعاً فى انتظار المدى الزمنى المحدد لإيران فى الاتفاق الدولى ليعلن عن نفسه، ويفرض توازناته على دول المنطقة.
كل هذا فرض تحرك المملكة على ثلاثة محاور مهمة؛ الأول: دق أبواب موسكو، واستخدام أدوات التعاون الاقتصادى معها لكبح جماح حلفائها بالمنطقة خاصة إيران.. الثانى: دعم الترسانة العسكرية للمملكة؛ معهد ستوكهولم الدولى لأبحاث السلام «SIPRI» رصد احتلالها المرتبة الثانية من حيث الإنفاق العسكرى بين دول العالم خلال الخمس سنوات الماضية «2012/2016»، وميزانيتها العسكرية بلغت 88 مليار دولار 2016، الثالث: وهو الأهم، التخلص من عوامل التخلف، وتحطيم القيود التى كبل بها المجتمع رجال فرضوا أنفسهم باعتبارهم قيّمين على شئون الدنيا والآخرة، ووكلاء الله على الأرض، الأمر لا يتعلق بإجراءات كالسماح للسيدات بقيادة السيارات، وإنما بمبعوثين سعوديين لأعرق الجامعات الروسية، وتعاون علمى بين الهيئات العلمية فى البلدين نجح فى إطلاق 13 قمراً صناعياً، آخرها «سعودى سات 4» الذى ينتمى إلى تكنولوجيا الجيل الجديد من الأقمار.. ومسك الختام ما أُدرج بأجندة فرقة باليه البولشوى وأوركسترا المارينسكى لعام 2018 من جولات فنية بالمملكة.. ترى هل هو انقلاب جديد يخوضه «سلمان» ليقفز بالدولة نحو التطور والحداثة.. أم أن مشايخ الغرب بالمملكة قادرون على إجهاضه؟!.