(١) لعلنا نتذكر أنه فى أبريل من عام ٢٠٠٩، أعلن المرشد «عاكف» لإحدى الصحف أنه لن يرشح نفسه لفترة ثانية، مدتها ٦ سنوات، تبدأ من ١٥ يناير ٢٠١٠ وتنتهى فى ١٤ يناير ٢٠١٦، وكيف أنه فاجأ الجميع بذلك حتى أعضاء مكتب الإرشاد.. وقد تناولت فى مقال سابق الأسباب الحقيقية وراء هذا القرار.. وفى اجتماع ١٠ يوليو ٢٠٠٩، حاول مكتب الإرشاد إثناءه عن عزمه، إلا أنه هدد بترك الاجتماع.. ورأينا كذلك أن الرجل كان حريصاً على إجراء انتخابات لمكتب إرشاد جديد قبل أن يغادر موقع المرشد، على اعتبار أن المكتب الموجود غير قادر على الوفاء بمسئولياته.. وقد أوضحت له أن إجراء هذه الانتخابات لن يأتى بجديد، وأنه سوف يتم اختيار المجموعة نفسها، لأنها تنال رضا الدكتور محمود عزت، أمين عام الجماعة وصهر المرشد «عاكف»، من ناحية، ولأن مجلس الشورى العام الذى سوف يقوم بالاختيار فى قبضة يده من ناحية أخرى(!)
(٢) قبل إجراء انتخابات مكتب الإرشاد واختيار المرشد الجديد بأربعة أشهر، وضعت يدى على مؤامرة شارك فى وضعها أساساً ثلاثة من أعضاء مكتب الإرشاد (محمود عزت، محمد مرسى، ومحيى حامد)، وذلك لاختيار مرشح لمنصب المرشد، بحيث تكون شخصية يرضون عنها وتنسجم مع توجهاتهم وأمزجتهم فى المرحلة المقبلة.. كانت الشخصية التى وقع عليها الاختيار هى الأستاذ جمعة أمين، لكنه لم يلق قبولاً حين عُرض اسمه على المهندس خيرت الشاطر الذى كان يشكك فى ذمته المالية، فانصرفوا عنه لآخر هو الدكتور محمد بديع.. والحقيقة أن المصادر والروايات تعددت من طرق متعددة، حيث اجتمعت الخيوط لدى فى أغسطس ٢٠٠٩ حول الذى جرى الترتيب والتخطيط له بليل.. وما كان لمثلى أن يأخذ بمصدر واحد حتى لا أقع فى مصيدة خبر غير موثق أو دليل ضعيف، فالأمر جد خطير ويحتاج إلى تثبت وتدقيق.. وما توصلت إليه هالنى وأفزعنى وأقضَّ مضجعى وأذهب النوم عن عينى.. وعجبت لهؤلاء الإخوان إذ كيف يبتسمون فى وجهى، فى الوقت الذى يضمرون فيه تلك المؤامرة التى كشفتها وساقتها لى الأقدار..
(٣) كنت أتصور من هؤلاء الإخوان (بدلاً من التدبير والتخطيط بليل) أن تنصرف عنايتهم واهتماماتهم إلى تحديد المعايير التى يتم على أساسها اختيار المرشد الذى يصلح لهذه المرحلة، وأن يتم هذا الأمر بصدق وإخلاص وتجرد وموضوعية، بعيداً عن أى غرض أو هوى، وبعيداً أيضاً عن استغلال لمواقعهم وصلاتهم بمفاصل الجماعة.. كنت أرى أيضاً أنه من الأهمية بمكان أن تنصرف جهودهم إلى تحديد الصلاحيات والمهام الرئيسية والدقيقة التى يضطلع بها المرشد على كافة المستويات والمجالات والميادين، داخلياً وخارجياً، وأنه من الضرورى كذلك تحديد المواصفات التى يجب أن تتوافر فى شخص المرشد لكى يكون مؤهلاً ليقوم بهذه المهام.. وكنت أتصور أن تُعرض هذه المعايير على أعضاء مجلس الشورى العام، وأن يأخذوا فرصتهم فى التعرف على بعضهم، ولو أدى هذا الأمر إلى أشهر، حيث إنه متعلق بقيادة سوف يكون لها أثرها على الجماعة والرأى العام لعقود.. وكنت أتصور أيضاً ألا يمارس ضغط أو توجيه من أى نوع على أعضاء مجلس الشورى، وألا ترتكب أعمال التشويه والاغتيال المعنوى فى حق أشخاص بأعينهم، فهذا وذاك سلوك معيب وغير أخلاقى لا يتسق مع قيمنا ومبادئنا الإسلامية الأصيلة.. وإذا كان البعض قد اعتقد أن هذه مبررات ضرورية ولازمة للحفاظ على أهداف نبيلة، فتلك هى الميكيافيلية بعينها، حيث إن الهدف النبيل لا بد أن تواكبه وسيلة شريفة.. لكن، هكذا كانت أخلاقيات القوم..
(٤) كنت أرى هذا البعض وهم يتصرفون أو يتحدثون بطريقة مريبة وغريبة، فكثيراً ما كنت أشاهد اثنين أو ثلاثة من هؤلاء الإخوة يتناجون فى ركن قصى بصوت غير مسموع، فإذا ما اقتربت منهم توقفوا عن الكلام.. لم ألتفت إلى ذلك فى بادئ الأمر، فالثقة بين الإخوان كانت هى الأصل، وقد حاول خصوم الجماعة فى فترات كثيرة من تاريخها أن ينفذوا إليها من هذه الزاوية؛ زاوية زرع بذور الشك فى القلوب.. وقد نجحوا أحياناً، لكنهم فشلوا أيضاً فى أحيان أخرى.. كنت أعى هذه القضية جيداً، إلا أن ما كان يحدث أمامى ورأيته بعينى رأسى مراراً، جعل علامات استفهام كثيرة تثور فى نفسى.. ورغم ذلك، توقفت عن الاسترسال فيما تستدعيه هذه العلامات حتى أتثبت، إذ لا بد فى هذه القضية بالذات من الدليل القاطع.. لم أسع إلى شىء، ولم أحاول من قبيل الفضول أو حب الاستطلاع أن أقف على ما يفعلون، خاصة أن صلاحياتى وسلطاتى كنائب أول للمرشد، تخول لى ذلك.. ثم عرفت أن هناك لقاءات كثيرة تتم بعيداً عن مقر المركز العام لا أعلم عنها شيئاً، لكن كانت تأتينى أخبارها قدراً ودون سعى منى.. وكانت هناك لجان تُنشأ وتُناقش أمور مهمة وتُتخذ قرارات، فى غيبة المكتب والنائب الأول.. وكان هناك أناس من الإخوان يسافرون أو يأتون من الخارج، ولا إشارة عن ذلك من قريب أو من بعيد..
(٥) واجهت المرشد والأمين العام والأعضاء بهذا كله.. لكن ردود الفعل كانت هزيلة ومتهافتة، ومثيرة للغثيان.. نعم كانت مثيرة للغثيان، إذ من الصعب على الإنسان أن يكتشف خيانة من إخوانه الذين يؤاكلونه ويشاربونه، ويبحرون معه فى نفس القارب، وإلى نفس الوجهة، بل يسيرون معه على نفس الدرب الوعر.. صعب على الإنسان أن يجد رفاقه الذين أحبهم وآثرهم على نفسه ووثق بهم يُظهرون شيئاً ويُبطنون شيئاً آخر، حتى ولو كان الهدف يقتضى -فى تصورهم- ذلك.. إن التاريخ القديم والحديث حافل بمآسٍ وفواجع، وتاريخ الإخوان نفسه يحتوى من الأحداث والوقائع ما يجعل الإنسان يقف أمامه حائراً ومذهولاً.. لقد قضيت أياماً وليالى لا يعلم عددها إلا الله وأنا أفكر فى مصير الجماعة على يد هؤلاء.. إن أفراد الصف الذين يمتلئون حماساً وتدفقاً واستعداداً للبذل والعطاء، ويرون فى هذه الجماعة منقذاً وموصلاً إلى الجنة لا يعلمون شيئاً عما يجرى، ولا يجب أن يعلموا.. فماذا أقول لهم؟ وما أثر ذلك عليهم؟ تساءلت بينى وبين نفسى: إذا كان هذا هو شأن أعلى مستوى قيادى فى الجماعة، فهل من الممكن أن يُكتب لها التوفيق والنجاح؟ وما هى القيم التى يعلمونها أو يورثونها لأفراد الصف؟ وهل يتسنى لمثل هذه النوعية من القيادة أن تقوم بدورها فى انتشال الشعب من وهدته والارتقاء بمنظومة القيم العليا لديه؟! (وللحديث بقية إن شاء الله).