دقة وكفاءة الحسابات السياسية تُعد إحدى السمات التى يجب أن تتوافر فى أى قيادة ارتضت لنفسها تزعّم ملايين البشر. وعندما تغيب الدقة والكفاءة عن الحسابات فى المواقف الحرجة تصبح الخسائر عظيمة، لعل أبسطها اهتزاز صورة القيادة أمام الرأى العام. أقول ذلك بمناسبة المشهد الذى نقلته كاميرات التليفزيون لدخول القوات العراقية المدعومة بميليشيات الحشد الشعبى إلى نواحى مدينة كركوك التى كانت تسيطر عليها قوات البيشمركة الكردية. المشهد كان شديد العجب، جنود وآليات عسكرية تتقدم فى هدوء ودون مقاومة، القيادات الكردية بالمدينة تختفى، المواقع الاستراتيجية (المطار وحقول وشركات البترول) يسقط الواحد بعد الآخر، الساعات تمضى ولا يوجد «حس أو خبر» من مسعود بارزانى، رئيس إقليم كردستان.
قلت لك ذات مرة إنه قد يكون لدى الأكراد أسبابهم الموضوعية التى تدعوهم إلى الانفصال، لكن الغطرسة التى تحدث بها «بارزانى» لا تتناسب مع السهولة التى سلم بها كركوك للقوات العراقية والحشد الشعبى!. فقد تحدّى السلطة المركزية فى بغداد، وصمّم على إجراء استفتاء الانفصال عن العراق، وتكوين دولة كردية مستقلة، وتدفّقت الرسائل، واحدة تلو الأخرى، على لسانه تؤكد للأكراد أن حلمهم يقترب من التحقيق. هدّدت السلطة المركزية «بارزانى»، فخرج رافضاً بدرجة واضحة من الغطرسة أى تهديدات. وتحدّث عن استعداد قوات البيشمركة لمواجهة أى هجوم على الأراضى التى وضعت يديها عليها، فى المناطق التى سبق وسيطر عليها تنظيم داعش الإرهابى. فجأة اتضح أن «بارزانى» كان يُشقشق بالكلمات ليس أكثر، وأنه لم يبنِ خطواته على حسابات سياسية دقيقة، والنتيجة هى حالة الإحباط التى بدأ الأكراد يشعرون بها عقب زحف القوات المركزية نحو كركوك.
لا خلاف على أنه من الوارد أن تقع الاشتباكات بين القوات العراقية وبيشمركة الكرد، فالطرفان يقفان فى مواجهة بعضهما البعض فى انتظار الرصاصة الأولى، لكن المواقع التى اتخذتها القوات العراقية والحشد الشعبى على الأرض ساعدتهم على قطع نصف المشوار نحو تحقيق غايتهم، قبل أن تنطلق أى رصاصة. والفضل فى ذلك يعود إلى أداء «بارزانى». ربما غلبت الحسابات الاقتصادية عن الرجل خلال الفترة التى سيطر فيها الأكراد على حقول النفط فى كركوك، فألهته عن الحسابات السياسية، فجاءت النتيجة على النحو الذى شهدناه أمس الأول!
تحكى كتب التراث أن الأكراد نجحوا مرة فى تأسيس دولة مستقلة -أيام الحكم البويهى- هى دولة «الحسنويين» التى قادها «حسنويه البرزيكانى»، وظلت قائمة لمدة 50 سنة. وقد حاول قائد آخر اسمه «الباذ الكردى» تكرار التجربة، فتمرّد على الدولة البويهية. يقول «ابن الأثير»: «الباذ.. واسمه أبوعبدالله الحسين بن دوستك، وهو من الأكراد الحميدية، وكان ابتداء أمره أنه كان يغزو بثغور ديار بكر كثيراً، وكان عظيم الخلقة، له بأس وشدة، وجمع الأكراد فأكثر، وممن أطاعه الأكراد البشنوية أصحاب قلعة فنك، وكانوا كثيراً». تمكن «الباذ» من السيطرة على الكثير من ثغور «ديار بكر» فى عهد الخليفة البويهى «عضد الدولة»، بل تمكن من السيطرة على مدينة الموصل، بعد وفاة «عضد الدولة»، لكن أمره انتهى فى النهاية إلى الفشل، بسبب ضعفه فى الحساب!.