في 19 نوفمبر 1924 اغتالت مجموعة من "الوطنيين المصريين" القائد الإنجليزي للجيش المصري "السير لي ستاك"، والذي كان يشغل أيضا منصب "حاكم السودان" التابعة لمصر في ذلك الوقت.
في تلك الأثناء كان سعد زغلول رئيسا للحكومة المصرية، بعد انتخابات فاز فيها حزب الوفد بالأغلبية المطلقة، وشكل حكومة عبّرت عن مطالب ثورة 1919، وكان على رأسها استقلال مصر عن بريطانيا الذي تحقق "جزئيا" عن طريق تصريح 28 فبراير 1922، وهو ما لم تكن ترضاه بريطانيا.
عودة إلى اغتيال "السير لي ستاك".. اتخذت بريطانيا من الحادثة ذريعة لإخضاع حكومة الوفد، والانقضاض على ارتباط مصر بالسودان، فتقدمت بمذكرة إلى الحكومة المصرية تطلب ما يلي:
1- الاعتذار عن الواقعة، ومعاقبة الجناة.
2- منع وقمع كل مظاهرة شعبية سياسية بشدة (لكسر الإرادة الشعبية للمصريين).
3- دفع غرامة قدرها نصف مليون جنيه مصري (وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت).
4- سحب الجيش المصري من السودان (وبذلك تقع السودان فريسة للجيش البريطاني منفردا).
5- زيادة المساحة المزروعة في السودان إلى ما لا حدود (بما يعني زيادة حصة السودان من مياه النيل على حساب حصة مصر).
قبل سعد زغلول المطالب مرغما، عدا ما يتعلق بالسودان، فاحتلت القوات البريطانية جمارك الإسكندرية، فتقدم باستقالته إلى الملك فؤاد، الذي وافق، وتشكلت حكومة أخرى برئاسة أحمد زيور باشا، قبلت المطالب البريطانية، وخسرت مصر أول حكومة وطنية منتخبة شعبيا بعد ثورة 1919.
العبرة من الواقعة.. أن الوطنية تتطلب الذكاء أكثر مما تتطلب الحماس الأحمق، من الوطنية غير الواعية ما قد يضر المصالح العُليا للبلاد، ويذل كرامتها، ويمنح أعداءها الفرصة للانقضاض عليها، التفكير الدقيق والعميق في أقل كلمة وأصغر فعل، ودراسة تبعاته، وردود الفعل المتوقعة له، كل ذلك جزء من الوطنية، بل هو "فرض عين" على كل وطني مخلص محب لبلده، أما الاندفاع بلا حساب، والعصبية، والهتافات، و"الجعجعة الفارغة"، فكلها ضجيج بلا طحن، وكم من شعوب على هذا الكوكب تعمل في صمت، تفكر وتتعلم وتنتج وتتقدم، وقلما تهتف وتصرخ، وكم من شعوب تحترف الهتاف، ويتكالب عليها أعداؤها.
أقول كل ذلك، وفي رأسي ألف سؤال عما بدر من أحد حضور انتخابات اليونسكو، الذي هتف ضد قطر، ومنحها فرصة ذهبية، للمتاجرة بالهتاف، و"تلبيسه" زورا للدبلوماسية المصرية، رغم أنه شخص لا ينتمي إلى الخارجية المصرية من قريب أو من بعيد.
نفس السؤال: كيف نبدو في عيون العالم عندما تتراجع قيمة العلم واحترام التخصص في حياتنا وتحتل الفهلوة محلهما؟ عندما نمارس الفوضى والعشوائية؟ عندما نتجاوز الدور ونقفز على الترتيب في أي مكان؟ عندما نختلق الأعذار لنبرر قلة الإنتاج وسوء المنتج؟ عندما نتغيب عن العمل ونهرب من المسئولية ونلقي بالعبء على الآخرين؟ عندما نتبجح ونتلكأ في عملنا الحكومي أكثر من الخاص وفي عملنا المحلي أكثر من الدولي؟ عندما نعلق على شماعة الظروف كل شيء وأي شيء؟
كيف نبدو في عيون العالم عندما نخترق القانون ونلتف عليه؟ عندما ""نُفَصِّل" قوانين على مقاس الحبايب والمحاسيب؟ عندما نبالغ في الافتخار بتاريخنا وحضارتنا وآثارنا بينما نعيش واقعا مغايرا تماما؟ عندما نشوه آثارنا أو نهربها ونبيعها إلى الخارج؟ عندما نمارس التمييز الديني والجنسي والعرقي؟ عندما ندعي الفضيلة والتدين "بطبعنا" ثم نحتل مراكز متقدمة عالميا في زيارة المواقع الإباحية والتحرش الجنسي؟
ثم بعد ذلك كله كيف نبدو في عيون العالم عندما نكذب ونضلل ونغالط في إعلامنا وكأن أحدا لم يعد يسمع أو يرى غيرنا؟
إننا في حاجة ماسة إلى مراجعة أنفسنا، إلى بذل المزيد من الجهد؛ حتى لا تنافسنا دولة مجرد منافستها لنا.. شرف لها.. وعار علينا!