جدل كثير يدور هذه الأيام حول القرار الذى اتّخذه جهاز التنظيم والإدارة بتطبيق المادة 177 من اللائحة التنفيذية لقانون الخدمة المدنية، التى تنص على إجراء التحاليل الطبية لكشف متعاطى ومدمنى المخدرات من موظفى الجهاز الإدارى للدولة، وفصل الموظف المدمن فوراً ودون إنذار. الجدل المثار حالياً حول هذا الموضوع له جذور تبدو شديدة العمق والتشعّب فى تاريخ المصريين. فتعاطى المخدرات، وعلى وجه التحديد «الحشيش»، آفة ابتُلى بها الكثيرون منذ زمن طويل. وهى آفة لا تُفرّق بين الكبير والصغير، الغنى والمتوسط والفقير، الذكور والإناث، الريفيّين وأبناء الحضر، نجوم المجتمع والأفراد العاديّين. الكل شريك فى «محبة الحشيش»!. أنواع كثيرة من المخدرات ابتُلى بها المجتمع المصرى، لكن ظل «الحشيش» الأكثر شيوعاً بين المصريين.
«التعميرة» -وهو الوصف الذى يُطلق على تدخين الحشيش- لها قصة طويلة فى حياة المصريين، قصة تبدأ بالرّغبة فى «السُطل» التى تسيطر على البعض، وتنتهى بنُكت الحشاشين التى تبدأ بعبارة: «مرة واحد حشاش». وقد تعجب إذا علمت أن أول من اكتشفها كان واحداً من مشايخ الصوفية من بلاد فارس. يروى «المقريزى» فى خططه حكاية لطيفة عن طريقة اكتشاف الحشيش على يد شيخ الشيوخ «حيدر»، يقول فيها: «قال الحسن بن محمد فى كتاب السوانح الأدبية فى مدائح القنبية: سألت الشيخ جعفر بن محمد الشيرازىّ الحيدرىّ ببلدة تستر فى سنة ثمان وخمسين وستمائة عن السبب فى الوقوف على هذا العقار ووصوله إلى الفقراء خاصة وتعدّيه إلى العوام عامّة، فذكر لى أن شيخه شيخ الشيوخ حيدراً رحمه الله، كان كثير الرياضة والمجاهدة، قليل الاستعمال للغذاء، قد فاق فى الزهادة وبرز فى العبادة، وكان مولده ببلاد خراسان ومقامه بجبل بين نشاور ومارماه، وكان قد اتخذ بهذا الجبل زاوية، وفى صحبته جماعة من الفقراء، وانقطع فى موضع منها، ومكث بها أكثر من عشر سنوات، لا يخرج منها ولا يدخل عليه أحد غيرى للقيام بخدمته. قال: ثم إن الشيخ طلع ذات يوم، وقد اشتدّ الحرّ وقت القائلة منفرداً بنفسه إلى الصحراء، ثم عاد وقد علا وجهه نشاط وسرور بخلاف ما كنا نعهده من حاله قبل، وأذن لأصحابه فى الدخول عليه وأخذ يحادثهم، فلما رأينا الشيخ على هذه الحالة من المؤانسة بعد إقامته تلك المدّة الطويلة فى الخلوة والعزلة سألناه عن ذلك، فقال: بينما أنا فى خلوتى، إذ خطر ببالى الخروج إلى الصحراء منفرداً، فخرجت فوجدت كل شىء من النبات ساكناً لا يتحرك لعدم الريح وشدّة القيظ، ومررت بنبات له ورق، فرأيته فى تلك الحال يميس بلطف ويتحرّك من غير عنف كالثمل النشوان، فجعلت أقطف منه أوراقاً وآكلها فحدث عندى الارتياح ما شاهدتموه، وقوموا بنا حتى أوقفكم عليه لتعرفوا شكله».
حالة من المشاكلة يؤكدها النص السابق بين نبات القنب -أى الحشيش- الذى يميس بلطف ويتحرك من غير عنف كالثمل النشوان، وإحساس «الحشاش»، ويبدو أنها حالة تتّسق إلى حد كبير مع المزاج المصرى، كما يصفه «المقريزى»، حين تحدّث عن خصائص الشخصية المصرية، ومن بينها الانهماك فى الشهوات، وكثرة الاستهتار، وعدم المبالاة. مؤكد أن «المقريزى» يبالغ فى تلك الأوصاف، لكن ذلك لا يمنع من وجود صدى لها فى حياة المصريين المعاصرة، تلمحها فى الولع بالاستهلاك، وعدم الاكتراث بالأشياء، وسيطرة حزب «اللامبالين» على ما عداه من الأحزاب فى مصر.