(١) فى أوائل يناير من عام ٢٠٠٤، كاد كاتب هذه السطور أن يكون مرشداًً، فقد كان الفارق بينه وبين الفائز بالمنصب (مهدى عاكف) صوتاً واحداً فى الانتخابات التى جرت بين أعضاء مكتب الإرشاد، وكان هذا الصوت هو صوته.. ولهذا السبب تم اختياره نائباً أول للمرشد.. وعادة ما يصبح هذا النائب مرشداً بعد انقضاء مدة المرشد السابق، خاصة إذا لم يكن هناك من الأمور ما يقدح فى أهليته.. لكن ليس معنى هذا أن يصل النائب إلى هذا الموقع دون أى إجراءات، بل يجب أن يكون عبر انتخاب حقيقى سواء عن طريق مجلس الشورى العام أو حتى مكتب الإرشاد، كما حدث مع المستشار المأمون الهضيبى عقب وفاة مصطفى مشهور، وكما حدث أيضاً مع محمد مهدى عاكف عقب وفاة المأمون الهضيبى.. لكن، أن تقوم مجموعة محدودة من أعضاء المكتب بالتخطيط والتآمر بليل بعيداً عن المكتب ومجلس الشورى العام لاختيار وتحديد شخص بعينه كى يكون مرشداً، فهذه هى الخيانة بعينها.. لقد كان الجميع، داخل الإخوان وخارجهم، يتصورون أن النائب الأول سوف يتم اختياره لموقع المرشد، وكانوا يعتبرون ذلك من الأمور البديهية.. فما الذى جعل هذه المجموعة تتنكب الطريق وتستبعد النائب الأول من المنافسة الحقيقية مع الآخرين؟ لقد كان يكره التصرفات والسلوكيات الخلفية التى دأبت هذه المجموعة على ارتكابها.. كما كان يمقت أى فعل غير متفق عليه بين أعضاء المكتب، خاصة إذا كان يخالف قيم ومبادئ الجماعة.. إن كل من عرف النائب الأول أو عايشه أو اقترب منه كان يدرك أنه صاحب رؤية وفكر، وهو أحد المنظرين الاستراتيجيين الكبار داخل الجماعة.. هل لأنه كان صاحب رأى حر يقاتل دونه بشجاعة، ولو خالف آراء الآخرين، مع أنه فى النهاية يلتزم بالشورى؟ المشكلة بالنسبة للمجموعة -إياها- أن النائب الأول كان يمارس صلاحياته كاملة غير منقوصة، فهو يحب أن يكون على دراية كاملة بكل ما يجرى داخل الجماعة، بما فى ذلك متابعة كافة الأنشطة، كما يحب أن يمارس كل عضو من أعضاء المكتب دوره فى حدود صلاحياته دون تجاوز أو تعدٍ على صلاحيات الآخرين، وهو ما كان يقلقهم.
(٢) إضافة إلى ما سبق، كان النائب الأول يدعو إلى احترام المؤسسية والنظم واللوائح الخاصة بالجماعة، والأهم من ذلك حرصه وإصراره على ضرورة تغيير بعض الفقرات الواردة فى إحدى رسائل «البنا» والمتعلقة باستخدام قوة الساعد والسلاح حينما لا يجدى غيرها -حسب تعبيره- إلى «قوة الحركة والانطلاق»، على اعتبار أن الدعوة وسط الجماهير ومحاولة الارتقاء بمنظومة القيم الأخلاقية والإيمانية والإنسانية الرفيعة لديها هى العمل الأساسى للجماعة.. ليس هذا فقط، وإنما ضرورة انفتاح الجماعة على القوى السياسية والوطنية والحزبية والرموز الفكرية والأدبية، بدلاً من الانكفاء على التنظيم.. لقد كان النائب الأول ذا وجه إعلامى له حضوره فى مصر وخارجها، ويستطيع أن يتعامل مع كل الوسائط الإعلامية بحرفية عالية.. كما أنه رحب الصدر، واسع الأفق، وله أسلوبه الخاص فى حل المشكلات بسهولة ويسر وذلك لما يتمتع به من قبول وخبرة عالية، فقد تدرج فى مواقع كثيرة داخل الجماعة، ويكفى أنه ظل عضواً بمكتب الإرشاد طيلة ١٩ عاماً، أى منذ عام ١٩٨٥ حتى عام ٢٠٠٤.. وعلى الرغم من محافظته وحرصه الشديد على ثوابت الجماعة، إلا أنه منفتح على المجتمع بكل شرائحه ومكوناته، ويؤمن بضرورة أن تكون عينه على الرأى العام الذى يمثل الرصيد الكبير والاحتياطى الأعظم للدعوة، والأهم من ذلك كله، أنه يؤمن بالشورى وحرية الشورى داخل الصف، وما تعنيه هذه الحرية من حرية النقد والتعبير وانسياب المعلومات والاختيار بين البدائل.
(٣) كان النائب الأول كل ذلك.. وما كانت المجموعة -إياها- تريد مرشداً على هذا النحو.. كانت تريد شخصية محدودة القدرات والكفاءات، تغض الطرف عن كل ما يحدث منها، لا تحاسبها على ما تفعل، تنقاد لتوجهاتها، وليس لديها اهتمام أو إلمام بما يحدث من أى فرد فيها.. لذا، كانت الخيانة.. ربما يكشف عن هذه المأساة ما حدث بعد ذلك من وقائع أغرب من الخيال.. لكنها تكشف فى الوقت ذاته عن النفس الإنسانية فى قوتها وضعفها، فى سموها وانحطاطها، فى تقدمها وتأخرها، فى ملائكيتها وشيطانيتها، فى يقظتها وغفلتها، وفى انتصارها وانكسارها.. فى أوقات الضعف والغفلة، لا أنكر أن نفسى كانت تميل إلى موقع المرشد.. لكنى فى أوقات الصحو واليقظة، ومع قدر من التفكير والتأمل، وفى لحظات الصدق مع الله، واجهت نفسى وقررت حسم هذا الأمر، وقمت بكتابة استقالتى من كل المواقع التى كنت أشغلها، ووضعتها فى حقيبة يدى حتى تكون ملازمة لى فى حلى وترحالى.. وقلت فى نفسى، سوف تجعلنى هذه الاستقالة قوياً غير خاضع لأى ضغط؛ سواء من داخل النفس أو من خارجها، فضلاً عن تحرير النية وجعل العمل خالصاً لله، فذلك أجدى وأكثر نفعاً.
(٤) عزيزى القارئ، أرجو ألا تغتر كثيراً بما قد تقع عليه عيناك أحياناً.. لا تغتر بالعيون الدامعة، أو الجفون المسبلة، أو الأكف المرتعشة، أو الأصوات المتهدجة، أو الدعوات المتضرعة.. فلا يدرى أحد من الخلق ما تحتويه القلوب، فذلك سر من أسرار علام الغيوب.. ولم يكن الصديق (رضى الله عنه) يفوق إيمانه إيمان الأمة لكثرة صيام أو صلاة، وإنما بشىء وقر فى صدره.. سوف تشاهد أعمالاً كبيرة وجهاداً عظيماً، لكن من يدرى أن هذا أو ذاك لله؟! إن ما رأيته من المرشد، والذين وضعوا المؤامرة، والدائرة الثانية المتواطئة معهم، وضعنى أمام خيارات ثلاثة: ا) إما أن أنفجر فى وجوه الجميع وليكن بعد ذلك ما يكون، أو ب) أغادر المكتب فى صمت تاركاً القوم يفعلون ما يريدون، أو ج) أظل على حضورى متجاوزاً ما يحدث وكأنى لا أرى شيئاً..
(٥) قبل أن أحدد ما سوف أتخذه من مواقف، قررت الابتعاد -ولو لفترة- عن هذا الجو، حتى أستطيع أن أفكر بهدوء.. وفعلاً غادرت القاهرة إلى أسيوط فى بداية الأسبوع الأخير من شهر رمضان ١٤٣٠هـ، وكان ذلك تحديداً فى ١٤ سبتمبر ٢٠٠٩.. كنت أنتوى العودة إلى القاهرة بعيد عيد الفطر مباشرة، لكن مشكلات خاصة بأولادى أهمتنى وأقعدتنى.. وقد جعلت هاتفى صامتاً حتى لا أرد على أحد.. اتصل بى المرشد وبعض أعضاء المكتب، فلم أرد.. وبعد فترة اتصل بى الدكتور محمد بديع فرددت عليه ورجانى الحضور إلى القاهرة فوعدته بذلك، لكنى لم أتمكن.