تؤلم جدا نوبات الإحباط وفقدان الأمل واليأس من حدوث التغييرات الإيجابية المنشودة التى تمر علينا جميعا فى مصر.
تؤلم لأنها تأتى بعد ثورة عظيمة وضعتنا، بالرغم من عثراتها الكثيرة، على مسار تحول ديمقراطى. تؤلم لأن أمماً أخرى، قاصية ودانية وفى أوضاع أصعب بكثير من أوضاعنا اليوم، نجحت فى صناعة تجارب تقدم مبهرة، وعلينا أن نتيقن من أن مصر ليست بأقل من الأمم هذه، وأن فرصنا وحظوظنا فى النجاح قائمة.
تؤلم لأن الشعور الرائع بقدرتنا الجماعية على دفع مصر إلى مصاف الأمم الديمقراطية والمجتمعات العادلة الذى امتلكه العدد الأكبر منا منذ أقل من عام ونصف تسرب من بين أيدينا ولم نعد نعلم كيف نستعيده.
تؤلم لأننا بحياتنا السياسية وبإعلامنا وبنقاشاتنا العامة عالية التوتر تحولنا لشعب من المتكلمين والشكائين والخائفين والمذعورين والمغولين فى حديث السلبيات، ولم نعد ندرى كيف نوقف كل هذا. تؤلم لأنها تفقدنا البوصلة الموضوعية لتقييم ما يدور حولنا وتزين لنا خطابات التخوين والتجريح والتشكيك على امتداد الحياة السياسية وساحة النقاش العام، وتعطى قبلة الحياة لبعض من اعتاشوا على إنتاج مثل هذه الخطابات قبل الثورة.
فمصر بعد عام ونصف من ثورة يناير ليست على حافة الهاوية، بل للمرة الأولى فى تاريخها الحديث مع رأس دولة منتخب بإرادة شعبية ينبغى أن تُحترم منه ومن معارضيه دون تسويف. ومن حق الرئيس أن يشكل فريقه وحكومته لتنفيذ مشروعه ومن حقنا المعارضة البناءة دون تغييب للموضوعية ودون حفلات التجريح الجماعى الدائرة اليوم ودون رومانسية «المصريون جميعا على قلب رجل واحد» التى تلغى الاختلاف المشروع والمطلوب. من حق الإخوان إدارة دفة السياسة استناداً لنتائج صندوق الانتخابات، ومن حق التيارات الليبرالية التنبيه لضرورة كتابة دستور يليق بمصر والحفاظ على استقلالية مؤسسات الدولة وضمان العودة الدورية للانتخابات دون شطط التفزيع من الإخوان ونفى الانتماء للجماعة الوطنية عنهم والاستقواء بالعسكر عليهم. لا تعارض فى أن أتمنى للدكتور مرسى وفريقه التوفيق لمصلحة مصر وأن أقف فى معارضة تحمل مشروعاً ورؤية مغايرة لما يطرحه وتنافسه.
مصر تعانى نعم من هوس دينى زائف، ومن خلط للدين بالسياسة، ومن أصوات عالية طائفية الهوى ونازعة للانتقاص من الحريات وحقوق المواطنة المتساوية، إلا أنها ليست مقبلة على تصفية لوجود المسيحيات والمسيحيين فى النسيج الوطنى. ونستطيع بالتأكيد أن نواجه المنتقصين من الحريات الفكرية والعلمية ومن حرية الإبداع بنجاح إن وثقنا فى مخزوننا الحضارى وقدرة مجتمعنا المدنى وليس بوهم «الديكتاتور» نصير الدولة المدنية. فالنوع هذا لم تنتجه
البشرية بعد، لا فى مصر ولا غيرها. نعم اكتشفنا بمجتمعنا الكثير من الحقائق والظواهر الصادمة من قابلية للعنف المادى واللفظى إلى ثقافة تشويه وتضليل منظم وتشفًّ وتجريح مرعبة، لم يسلم كثيرون منها ولم أسلم شخصيا منها، ولم يتحرج مدعى دين وعلم ومعرفة من المشاركة بها. إلا إن اكتشافها، وهو فى جميع الأحوال أفضل من الحجب بفعل الدولة القمعية، لا يعنى الاستسلام لها والتراخى عن مقاومتها.
بعض الهدوء والتروى أرجوكم ونوبات إحباط ويأس أقل، فنحن فى مصر لسنا مع كارثة محققة ولن نصنع التغيير بالمخيلة السلبية هذه.