مرسى سعدالدين.. على أعتاب الـ90: أنتظر الموت بشوق
حالة خاصة تجمع بين الطيبة والتواضع والتسامح، بين ثنايا وجه هذا العجوز تكمن خبرة 4 عصور، يعترف أن الحظ كان له دور رئيسى فى حياته، فلم يسع يوما لأى منصب تقلده، صاحب عدة ألسنة، الإنجليزية والفرنسية والألمانية، واستطاع بهذه المهارة أن يصنع جسرا ثقافيا مع العالم. ضيعت الحياة أحبابه أمام عينيه، حتى إنه لم يعد يخشى الموت، بل ينتظره بشوق على أعتاب الـ90.
فى شقة بسيطة بشارع إلياس فى منشية البكرى يعيش الدكتور مرسى سعدالدين، أول مستشار ثقافى فى لندن والمتحدث باسم الرئيس السادات وأول رئيس لهيئة الاستعلامات منذ أكثر من 50 عاما. عقب عودته وزوجته من لندن تغيرت تفاصيل حياته: «أصعب شىء إن واحد زيى كانت حياته مليئة بالعمل يعانى من الفراغ، لذا أشغل نفسى، مش عايز أستريح، صحيح إن الشباب شباب القلب، لكن شباب الجسم مهم أوى».
يبدأ يومه بتناول كوب عصير طازج والمشى فى بلكونة منزله، بعدها يقرأ الصحف المصرية والأجنبية، خاصة صحف الأحد الإنجليزية التى يرى أنها قادرة على عرض ومتابعة القضايا المطروحة على الساحة بحرفية ومهنية لا تجيدها الصحف المصرية حتى الآن. بعد الظهر يصحبه سائقه مع عدد من أصدقائه إلى مقهى «البوب» فى الزمالك أو مقهى «الاسترون» فى وسط البلد أو نادى السيارات أو «ساونا» نادى هليوبوليس، لمناقشات السياسة والتنفيس عن الحال فى مكان لا يسمعهم فيه أحد. يقضى أغلب النهار فى مشاهدة الأفلام الأجنبية وأفلام نجيب الريحانى ومتابعة الأخبار، بعدها يدخل صومعته ويمارس هوايته الوحيدة «القراءة». بعد العشاء يبدأ فى استقبال تليفونات الأهل والأصدقاء والأقارب الذين اعتادوا السؤال عنه يوميا بداية من تامر وأسامة نجلى أخيه، وحفيدته منة، وسكينة السادات، والفنانتين يسرا وآثار الحكيم.
مرسى سعدالدين هو الابن الأكبر لأسرة فنية تهوى الأدب، والده كان أستاذا للفيزياء فى كلية العلوم ومترجما، ووالدته كانت عضوة بحزب الوفد وصديقة شخصية لصفية زغلول، وصحبته مرات إلى قبر زعيم الأمة ليسمعها تنشد الشعر فى مدحه، شقيقتاه «صفية وأسماء» كانتا بطلتين فى السباحة والغطس. زوجته السيدة «عنايات» أول مصرية تعمل مديرة لمدرسة إنجليزية، ارتبطا بحب لسنوات قبل الزواج، خلال دراستهما فى كلية الآداب، حتى تخرجا عام 1943، ويفخر مرسى بأنهم كانوا ينادون زوجته «مسز مرسى سعدالدين»، توفيت منذ أكثر من 7 سنوات، تاركة ولداً وحيداً «حمدى» الذى توفى متأثراً بأزمة قلبية، تاركاً بدوره حفيدة وحيدة للرجل، «منة» التى ملأت حياة جدها وقضت معه أول أيام رمضان هذا العام.
فتح لنا خزانة أسراره وتكلم عن ذكريات علاقته بأخيه بليغ حمدى، ويبتسم: «كان الصغير المدلل ومربيته الصعيدية علمته الأغانى الشعبية فى صغره»، ويذكر لبليغ أنه توسط له عند الرئيس السادات حينما كان فى ألمانيا ودعى كمستشار ثقافى لحفل تخرج طلاب فى ألمانيا الشرقية ووجه لهم كلمة شكر، وقتها غضب منه السادات وقال له: «عملِّى فيها شيوعى؟» فرد عليه: «شيوعى إيه يا ريس؟! ده أنا برجوازى ابن برجوازى»، والسادات قال لبليغ إنه «بيشد ودنى بس.. وإنه محضّر مفاجأة»، وعينه أول رئيس لهيئة الاستعلامات.
كانت تربطه بالسادات علاقة صداقة، وكان دائما يزوره فى منزله بالهرم فى عثمان محرم، «دائما ما كان يقابلنى بالعباءة وكنت أستنكر لبسه لها، كما كنت أزوره فى بيته فى ميت أبوالكوم فى المنوفية، كان كريما جدا بالرغم من أنه منوفى».
وجيهان السادات قرينته ما زالت تسأل عليه حتى الآن، وكانت تزوره حتى توفيت زوجته عنايات، نافيا الشائعات الخاطئة التى كانت تتردد عنهم وأنه من كتب لها رسالة الماجستير الخاصة بها قائلا: «لم أساعدها بل ساعدها مجدى وهبة، لقربه من حرم السادات لسفره الدائم معها»، ويتذكر أنها غضبت كثيرا من مفاجأة السادات لها بعرض مناقشتها للماجستير على الهواء مباشرة.
علاقاته مع الرئيس الراحل عبدالناصر كانت رسمية، وثورة يوليو لم يكن له دور فيها، إلا أنه تم اختياره فى «شلة» الأحرار لأنه لم يكن له ميول شخصية، فعمل رقيبا للكتب لعبدالناصر، أى يلخص الكتب والصحف والمجلات الإنجليزية التى ترد إلى مصر، وكان يقوم بإعداد ملخص وافٍ عن الكتب الإنجليزية ويقوم بإرساله إليه، «فإذا أعجبه الملخص أوافيه بالكتاب»، إضافة إلى تكليفه الشخصى له وللدكتور رشاد رشدى بتعليم بعض الوزراء والسفراء الجدد اللغة الإنجليزية، حيث استعانت الثورة فى أوائل عهدها بحوالى 60% من سفرائها من الضباط ليتولوا مهام ذلك العمل الدبلوماسى الرفيع، فعين خالد محيىالدين فى سويسرا وثروت عكاشة فى باريس، وهما من ذوى الثقل السياسى الذى كان يجب الاستفادة منه بالداخل. لكن السفراء الآخرين كنا ندرس لهم دورة مكثفة تستغرق 6 شهور، وحينما كان فى ألمانيا أرسل لى ابنته منى وأوصانى عليها.
ويتذكر متنهدا: «أصعب ما قابلت فى حياتى بعد وفاة ابنى وزوجتى وفاة صديق عمرى يوسف السباعى، الذى كانت ابتسامته قادرة على حل كل المشاكل».. يوسف السباعى كان جاره فى حى شبرا فى نفس العمارة، وكان مقررا أن يصحبه إلى قبرص حيث لفظ أنفاسه الأخيرة برصاصات الاغتيال، لولا موانع القدر.
عند ذكر علاقته بسيدة الفلبين الأولى إيملدا ماركوس، يضحك: «أعلم أنها كانت تحبنى»، كانت تأنس للحديث معه بصفة شخصية، «وسألتها عن سر الألف حذاء التى قيل بعد الإطاحة بزوجها إنها تقتنيها، فقالت: إن الفلبين تشتهر بصنع الأحذية وكلها كانت هدايا شخصية تعبيرا عن المحبة.. فالأمريكان هم الذين روجوا لهذه الشائعات وهذا هو منهجهم فى السياسة الخارجية حين ينقلبون على حلفائهم».. يصفها بالشخصية المحبوبة والنشطة، «كانت ملكة جمال وعارضة أزياء.. فكانت تقوم بارتداء ثلاثة فساتين فى اليوم حين قدمت إلى مصر، فقالت لى السيدة جيهان: أنا لست متفرغة لهذا الشأن مثلها ولا أستطيع مجاراتها»، بالرغم من أناقة وبساطة جيهان السادات.
يقول: «دخلت ذات يوم على يوسف السباعى وكان وزيرا للإعلام والثقافة وطلبت منه تعيين صفوت الشريف، فسأل: مين صفوت ده؟ قلت له: اسمه الحركى «موافى»، وحينما عرف قصته قال لى: يا مرسى ابعد عنه، قلت: ده شكله غلبان، ولكن صفوت لم يحفظ الجميل وقام بكتابة تقارير ضدى؛ أنى كثير الشرب وأحب النساء، تسببت فى انقلاب السادات ضدى».
وصفته السحرية للاحتفاظ بالوئام النفسى ارتياح الضمير، والرضا بقضاء الله وقدره. لم يذهب لانتخاب الرئيس لأنه لا يثق فى العملية الانتخابية، ومن خبرته السابقة يعلم أن ما تريده الشعوب ليس دائما هو الصواب.