بعد أن حصل الاقتصادى الأمريكى «بول صامويلسون» على جائزة نوبل فى الاقتصاد عام 1970، تحولت إحدى مقولاته الشهيرة إلى «تعويذة» سحرية استفاد منها أنصار الاقتصاد الحر أكثر مما استفاد منها تلاميذه من أنصار تدخل الدولة فى الاقتصاد لكبح سعار رجال الأعمال وأصحاب المشاريع الاستثمارية الضخمة.
قال «صامويلسون»، الذى عمل مستشاراً للرئيس الأمريكى جون كيندى: «أنا لا يعنينى من يكتب قوانين الأمة.. ما دام بوسعى أن أكتب لها كتبها المدرسية الخاصة بعلم الاقتصاد».
وقد تحققت فعلاً تطلعات هذا الرجل وبطريقة لم تكن تخطر على بال أحد؛ فبعد عام 1973 مباشرة تحولت الاتفاقيات الاقتصادية الدولية التى قادتها الولايات المتحدة الأمريكية، عبر صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، إلى «دستور» عالمى يعلو فوق كل دساتير الأمم وقوانينها، بل ويتعامل مع مواثيق الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان والعدالة الإنسانية وعدم الاستغلال، بوصفها شعارات جوفاء لا تمنع شركة عالمية من تدمير ملايين البشر لزيادة أرباحها، ولا تعيق إرادة «بارونات السلاح» عن تدبير حروب رهيبة تبيد الملايين من أجل تنشيط مبيعات السلاح.
وفى الوقت الذى تنشغل فيه مصر حتى النخاع بوضع دستور لا تكاد جملة واحدة فيه تلاقى إجماعاً وطنياً عليها، وتنشط الأحزاب المتسترة بالدين فى إضاعة الوقت واستنفاد الطاقة حول مواد الهوية والشريعة وحقوق المرأة والطفل، وتحشد الأحزاب الليبرالية كل قواها فى البحث عن صياغات دستورية تحقق لكل منها ما تراه مناسباً لها على صعيد نظام الحكم ونظام الانتخاب، يمضى الوطن كله فى اتجاه آخر تماماً مدفوعاً بأزمات معيشية واقتصادية طاحنة لن ينجينا أعظم دساتير العالم من آثارها الكارثية التى تنتظرنا خلال شهور معدودة إذا ظل الاهتمام بالسياسة مقدماً على الاهتمام بالاقتصاد.
وما يدعو للرعب على حالة مصر، ليس هو فقط هذا الاهتمام العبثى بالجدل السياسى «المقرف» والعقيم، ولكن الرعب يتضاعف من نوعية الاقتصاديين الذين نلجأ إليهم عند الحاجة لطلب المشورة أو لالتماس العلاج، ودائماً نكتشف بعد فوات الأوان أنهم مجرد مستشارين فنيين يجيدون الحديث عن المؤشرات ولا تكاد «الروشتة» التى يقترحها كل منهم لحل أى مشكلة اقتصادية تختلف عن الإجابات النموذجية الجاهزة المبذولة فى نشرات صندوق النقد الدولى، وهى إجابات تتعامل مع كل دول العالم باعتبارها قطاعات متماثلة تماماً وضعها الله على الخريطة لتكون فقط مصدراً لإثراء الشركات المسيطرة عالمياً وخلق الله البشر فيها لكى يكونوا طاقة إنتاج بشرية رخيصة.
وخلال العشرين عاماً الماضية شهد العالم صحوة فكرية مدهشة، امتدت آثارها إلى مصر عبر عشرات الكتب الاقتصادية والفكرية المترجمة وعبر كتابات عدد من الاقتصاديين المرموقين من أمثال الدكتور جلال أمين والدكتور شريف دلاور والدكتور جودة عبدالخالق والدكتور إبراهيم العيسوى، وقد استقرت هذه الصحوة على أن «الاقتصاد فى أى بلد أخطر كثيراً من أن نتركه للاقتصاديين وحدهم».. وأن حالة المعيشة وأحوال المواطنين لم تعد تقاس إطلاقاً بمعدلات النمو ولا بحجم الناتج القومى الإجمالى ولا بحجم الاستثمارات الأجنبية، فقد تحقق دولة معدل نمو مرتفعاً ولكنها تحقق فى الوقت ذاته معدلات إفقار واسعة للغالبية العظمى من مواطنيها، وقد تستقبل دولة استثمارات أجنبية هائلة تتركها بعد سنوات بلدا فقيراً محطماً ومتخلفاً على كل الأصعدة.
والمحصلة، أن التفكير الذى لم يتغير لدى كبار السياسيين والاقتصاديين فى مصر بعد ثورتى ٢٥ يناير و٣٠ يونيو، حول الطريق الذى ينبغى أن نسلكه فى المسار الاقتصادى، لا يبشر بأى خير فما زلنا نلهث خلف الاستثمار الأجنبى الذى دمر قارات بأكملها ونتعامى قاصدين -إرضاء لرجال أعمالنا المدللين- عن دور القطاع التعاونى والقطاع العام والحكومى الذى يجب أن نعتمد عليها فورا لإحداث نهضة حقيقية، ومعدل تنمية لصالح غالبية المواطنين، ونسب تشغيل بأجور كريمة تنقذ ٩٥٪ من الشعب المصرى من عبودية العمل بأجر زهيد فى إقطاعيات وحوش الأسواق الحرة والاقتصاد الحر.