لا يستطيع أى مراقب لديه ضمير وطنى، إلا أن يشهد بكفاءة أجهزة الأمن فى عملية اقتحام «كرداسة وناهيا» التى تمت فى الساعة السادسة من صباح أمس الأول الخميس. نعم كانت عملية ناجحة بكل المقاييس، لأن «الدولة» التى كانت غائبة تماماً عن هذه المنطقة الشاسعة المكتظة بالبشر، اختارت أن تعود إليها فى وضح النهار مصحوبة بكل وسائل الإعلام، حتى يكون العالم كله شاهداً على الأداء الراقى والكفء لاقتحام واحدة من أخطر البؤر الإرهابية فى مصر، دون إراقة دماء، ودون أدنى تجاوز لحقوق المواطنين العاديين فى هذه المنطقة، وقد لعب هذا الاختيار لساعة الصفر دوراً فارقاً فى شل الميليشيات الإلكترونية لجماعة الإخوان، ومنعها من تلفيق أو اصطناع مجازر وهمية فى «كرداسة وناهيا» واستخدامها فى مخاطبة المجتمع الدولى وتحريضه على التدخل فى الشأن المصرى.
النجاح استند أيضاً إلى الدقة الكبيرة فى تحديد المطلوبين الذين ظهر معظمهم فى «الفيديوهات» التى سجلت الحادث المروع لضباط وأفراد قسم شرطة كرداسة، ووضع خرائط تفصيلية لأماكن وجودهم ومسارات هروبهم المحتمل، وهى دقة أفضت إلى ضبط عدد كبير منهم وبحوزة بعضهم دليل إدانته الذى لا يقبل نقضاً، مثل تليفون النقيب هشام شتا الذى عثرت عليه الشرطة مع قاتله.
الأكثر بطولة ونبلاً فى هذا الاقتحام الناجح هو الأداء الإنسانى الراقى لضباط مديرية أمن الجيزة الذين عانوا أشد المعاناة من خسة ووضاعة الحادث الوحشى الذى تعرض له زملاؤهم فى قسم شرطة كرداسة.. لقد كان الحادث من أفظع ما عرفه المصريون طوال حياتهم، وكان طبيعياً أن يشعر كل منا برغبة طاغية فى الانتقام من القتلة المتوحشين حتى لو جاء الانتقام خارج القانون، والمؤكد أن ضباط وصف ضباط مديرية أمن الجيزة كانوا الأكثر إحساساً بالمهانة، والأكثر رغبة فى رد الاعتبار لأنفسهم والانتقام لزملائهم، ومع بدء عملية الاقتحام، كنت واحداً ممن شعروا بخوف جارف من أن يندفع ضباط الجيزة تحت وطأة الإحساس بالغدر ويرتكبوا مجزرة إنسانية خارج القانون انتقاماً لزملائهم، وبعد ساعات طويلة من بدء الاقتحام كان واضحاً أن أجهزة الأمن تتعامل بوعى جديد، تعلو فيه مصلحة الوطن فوق كل اعتبار آخر، وتسمو فيه كرامة الإنسان وحقوقه فوق الاعتبارات الشخصية أياً كان دافعها.
ولكن ماذا بعد الاقتحام الناجح لهذه البؤرة الخطرة فى خريطة الوطن؟
أعتقد أن هذا هو السؤال الأهم، لأنه يتجاوز تطهير الجراح المتقيحة إلى التفكير العميق والصائب فى مصير الجسد الوطنى كله، فقد عانت هذه المنطقة الكبيرة من محافظة الجيزة من فساد ممنهج وشديد الخطورة، تسبب -عن قصد وتدبير- فى تخريبها تماماً، حتى يستحيل أن تعثر فى كرداسة أو ناهيا أو القرى المحيطة بهما على شارع واحد مرصوف، بعد أن كانت شوارعها قبل عشر سنوات أكثر رحمة مما عليه الآن.. وقد شاء حظ هذه المنطقة الضخمة والمهمة أن تقع تحت رحمة الدكتور فتحى سعد محافظ الجيزة الأسبق، ثم محافظ 6 أكتوبر بعد ذلك، فإذا به يأمر بحفر كل شوارعها جملة واحدة، ويهدم شبكات المياه والصرف الصحى والتليفونات فيها، وبعد شهور من هذا التخريب المتعمد والمدروس، كان طبيعياً أن تختلط مياه الشرب بمياه المجارى وأن يتحول مجرد السير فى شوارع هذه البلاد إلى جحيم لا يطاق، وكان من أغرب ما شهدته هذه المنطقة الأمر الإدارى الغامض الذى منع كل الأهالى من بناء بيوت جديدة حتى داخل كردون المبانى إلا بعد دفع رشاوى مالية طائلة، وخلال عهد فتحى سعد كان من المستحيل على أى مواطن أن يبنى بيته طبقاً للقانون، وكان من السهل جداً أن يبنى أى شخص صرحاً ضخماً فى الأراضى الزراعية أو فوق حرم الطرق السريعة طالما أنه يتعامل خارج القانون.
وبعد فتحى سعد جاء الدكتور على عبدالرحمن الذى لعب دوراً خطيراً فى إنهاء وجود الدولة فى هذه المنطقة، وأعطى للجان الشعبية فى ناهيا وكرداسة وكل أحياء الجيزة الحق الحصرى فى توزيع السلع التموينية واحتكار أدوية المستشفيات العامة وتوزيعها عبر القوافل الطبية الإخوانية، وتوزيع أسطوانات الغاز وحصص الدقيق والخبز.. وانتهى الأمر بأن تحول محمد نصر غزلانى رئيس اللجنة الشعبية بكرداسة إلى حاكم فعلى يأمر فيطاع، ولم ننتبه إلى خطورة ما فعله على عبدالرحمن، إلا بعد أن أمر «غزلانى» بقتل ضباط قسم كرداسة، فاستجاب له العشرات وارتكبوا أفظع ما عرفه الشعب المصرى من جرائم وحشية.. ورغم ذلك كله ما زال على عبدالرحمن محافظاً للجيزة.. دون مساءلة، وما زال فتحى سعد مختبئاً فى عالمه الغامض دون حساب!