إذا أردت أن تهدم بلداً، فليس أمامك طريق أسرع لبلوغ هذا الهدف الرهيب غير ما يفعله الآن آلاف الموظفين الكبار فى الجهاز التنفيذى للدولة، فقد شاعت بين هؤلاء الكبار ثقافة عامة تحولت إلى قانون سرى يتمثل فى الامتناع غير المعلَن عن اتخاذ أى قرار خوفاً من المساءلة، ودفع المواطنين إلى اللجوء للقضاء للحصول على أحكام قضائية فى أمور شديدة الوضوح لا تحتمل كل هذا العناء والضغط على أعصاب المواطنين وإرهاق القضاء وتحميله فوق ما يحتمل.
نعم، لدينا وزراء ورؤساء وأجهزة وهيئات وشركات قرروا منذ ثورة 25 يناير، ألا يتخذوا قراراً إلا بناء على حكم قضائى نهائى، رغم أن القوانين واللوائح الإدارية التى تنظم أعمالهم تعطيهم حق التصرف واتخاذ القرار، بل وتلزمهم بذلك حتى لا تتحول الحياة إلى جحيم لا يطاق، ولا يحصل مواطن على حقه إلا بعد تحطيم أعصابه وتدمير انتمائه لهذا البلد!
الأخطر من هذا القانون السرى الذى يحكم أداء كبار الموظفين فى مصر، هو ما يفعله بعضهم من رفض علنى لتنفيذ أحكام القضاء النهائية الواجبة النفاذ فوراً، وإضاعة الوقت والجهد والمال فى البحث عن مخرج إدارى للإفلات من عقوبة الحبس والعزل من الوظيفة التى تنص عليها المادة 123 من قانون العقوبات الخاصة بعدم تنفيذ الأحكام القضائية بعد ثمانية أيام فقط من صدورها.
النموذج الفج لتجاهل أحكام القضاء النهائية الواجبة النفاذ يتمثل فيما تتعرض له «قنوات دريم الفضائية» من تعنت غامض، كان هناك ما يبرره فى ظل حكم جماعة الإخوان لمصر، وحكاية «دريم» المأساوية بدأت مع مجىء صلاح عبدالمقصود «الإخوانى» وزيراً للإعلام، حيث سارع فى 14 نوفمبر 2012 بإصدار قرار انتقامى بإلغاء قرار مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتليفزيون فى فبراير 2006 بالموافقة لشركة دريم بتوصيل إشارة البث من استديوهاتها فى دريم لاند إلى المحطة الأرضية «النايل سات» عبر شبكة ألياف الشركة المصرية للاتصالات، وأنفقت دريم عشرات الملايين من الجنيهات حتى تتمكن من بث برامجها من استديوهاتها، ولأن «دريم» لعبت دوراً فارقاً -مع فضائيات أخرى- فى فضح فساد الإخوان وفاشيتهم، فقد استغل صلاح عبدالمقصود سلطته وأصدر قراراً بوقف بث الفضائيات من خارج مدينة الإنتاج الإعلامى، وهو يعلم أن قراره سيصيب «دريم» تحديداً فى مقتل وقد يؤدى إلى إغلاقها تماماً.
احتملت شركة دريم فوق طاقتها وقررت أن تخوض معركة ضد هذا الظلم الفاجر، فلجأت إلى محكمة القضاء الإدارى التى أصدر رئيسها أمراً قضائياً فى 24/11/2012 يقضى بإعادة البث المباشر من استديوهات دريم بصفة مؤقتة حتى يتم الفصل فى الدعوى الأصلية وبتنفيذ الأمر بمسودته ودون إعلان، ولكن «عبدالمقصود» الإخوانى ضرب بالأمر القضائى عرض الحائط، فرفعت «دريم» دعوى قضائية عاجلة انتهت بحكم نهائى واجب النفاذ فى 12 يناير 2013، بتمكينها من بث برامجها من استديوهاتها فى مدينة «دريم لاند»، ولكن «عبدالمقصود» تحجج بأنه ليس معنياً بتنفيذ الحكم، وأن اتحاد الإذاعة والتليفزيون هو وحده الذى يملك التنفيذ، ولجأ الاتحاد إلى حيلة مكشوفة بالامتناع عن توجيه خطاب لـ«النايل سات» بإعادة إرسال إشارة البث من استديوهات دريم.
كل هذا كان مبرراً فى ظل «جماعة» استهدفت القضاء والإعلام المستقل معاً، وكانت تخطط لتدميرهما، أما أن يحدث هذا بعد ثورة 30 يونيو التى أطاحت بالإخوان فهذا هو اللغز الغامض، وخصوصاً أن وزيرة الإعلام الحالية الدكتورة درية شرف الدين كانت إحدى مذيعات دريم، وعاشت بنفسها هذه المعاناة الظالمة، وكان عصام الأمير الذى يشغل الآن منصب رئيس اتحاد الإذاعة والتليفزيون أحد المستقيلين بسبب فساد حكم الإخوان، وها هو بعد عودته بثورة عظيمة لا يفعل شيئاً -هو والوزيرة- غير التنفيذ الحرفى لمخطط الإخوان فى الاستهانة بأحكام القضاء، والامتناع عن اتخاذ أى قرار خوفاً من المسئولية.
والمفيد يا سادة.. أن هذه الأيادى المرتعشة والخائفة، وهذه العقول التى ترفض تنفيذ أحكام القضاء النهائية، لا تفعل شيئاً غير أنها تعمل بكل دأب وهمة على تنفيذ مخطط تدمير البلد، ودفع المواطنين وأصحاب الأعمال إلى الكفر بالقضاء، واللجوء إلى قانون الغابة لأخذ الحق بالقوة، أو غلق الشركات وتشريد آلاف العمال والخروج إلى بلاد أخرى يحترم موظفوها الكبار حقوق المواطنين وأحكام القضاء.