يظل جمال عبدالناصر حاضراً رغم الغياب.
يظل رمزاً لمرحلة تحول فيها المصريون إلى أصحاب حلم، بعد أن كانت حياتهم كوابيس يحاولون اللحاق بدورهم فيها.
يظل الوحيد الذى رأوه فى دور «المخلِّص» و«المنقذ»، بعد سنوات عجاف من الانزواء فى ظلام احتلال رضى به كثيرون وتعاملوا معه كواقع ينبغى التعامل معه كمفردة طبيعية فى حياتهم.
لست من دراويش «عبدالناصر»، ولست من الموغلين فى كراهيته، لكن الرجل يظل حالة متفردة فى تاريخ مصر الحديث، وصاحب بصمة مستمرة فى حياة المصريين، ولو أن هناك علماً يمكن تسميته علم نفس الشعوب لظل «عبدالناصر» لغزاً كبيراً مثيراً للجدل عند باحثى هذا العلم.
فهم عبدالناصر سيكولوجية الشعب المصرى، وشعروا بأنه منهم ويتكلم بلغتهم، لدرجة جعلتهم يقبلون منه أن يقول لهم: «أنا الذى علمتكم الكرامة»، ولم ولن يقبلوها من غيره.
قبلوا أن يسجنهم رجاله، ورفضوا قمعهم، لكنهم ظلوا يدعون له، ويترحمون عليه حتى يومنا هذا!!
صحيح أنه من الصعب أن تجد شخصاً مشاعره موضوعية تجاه جمال عبدالناصر تحديداً؛ حيث تفقد الموضوعية معناها أمام كاريزما غريبة لرجل حار كثيرون فى فهمه، لكن الدرس الذى لم ينتبه إليه أحد، أو لعلهم عرفوه، لكن لم يفهموه، وربما فهموه لكنهم لم يستطيعوا تطبيقه، هو أن جمال عبدالناصر نموذج حقيقى لزعيم يكسب الشعب والناس البسطاء، فيواجه به أى عدو، أياً كان، وللأبد، ومهما ظن خصومه أنه خسر، يخرج منتصراً ومحبوباً أكثر من الشعب.
حتى فى أشد لحظات «عبدالناصر» ضعفاً، كان من الذكاء والشجاعة بحيث يعترف بالهزيمة بعد النكسة، ويكلف زكريا محيى الدين بأن يحل محله، لكنه خرج منتصراً من جديد، بعد أن خرج الناس من أجله، ورفضوا تنحيه.
علاقة غريبة بين الجنرال الذى يكلم البسطاء بلغتهم، ويشعرون أنه منهم، فيكسب فى النهاية معاركه مهما طالت، ولذلك فـ«عبدالناصر» ما زال منتصراً حتى اليوم، ولم يتعلم أحد ممن حكموا مصر بعده هذا الدرس:
اكسب الناس.
كن مع الشعب تربح كل معاركك أياً كانت.
لا تدخل فى معارك تافهة لتأمين منصبك وكرسيك، بل ادخل فى معارك الناس، وسينحازون لك فى كل معاركك المقبلة لأنهم سيعتبرونك بطلهم.
حتى الذين رفضوا «عبدالناصر» وكرهوه، وحتى خصومه، لم يستطيعوا أن يهزموه؛ لأنهم لم يتعلموا هذا الدرس، وحين ناصبوه العداء لم يفهموا أنهم يناصبونه ومَن معه مِن ملايين البسطاء الذين يحلمون ويحلمون ويحلمون، وهكذا كان «عبدالناصر» الزعيم المصرى الوحيد الذى خرج من كل معاركه منتصراً حتى لو تمت هزيمته مثلما حدث فى النكسة.
صحيح أنه كان عظيم المجد والأخطاء، لكن هذا الشعب يحب ويكره، ولا يقيم زعماءه بميزان الإنجاز والبرامج الانتخابية، فإن كسبته وأحبك فاحرص على ألا يكرهك فتخسره إلى الأبد، وهذا ما فعله «عبدالناصر» رغم أخطائه وخطاياه، ورغم قوته وبطشه، ورغم الحوادث والأحداث.
وحين مات «عبدالناصر» الذى حلت ذكراه بالأمس، كان خروج الناس وكأنه استفتاء حقيقى على بقائه فى قلوب الشعب إلى الأبد، وحتى الشعوب العربية أقامت له عزاء وجنازات رمزية. بالأمس سألنى الأستاذ محمد عاشور عن تفسيرى لمحبة أجيال عديدة لـ«عبدالناصر» رغم أنها لم تولد فى عهده ولم تعش عصره، وكان ردى أنه ميراث المحبة.
تحية لـ«عبدالناصر» فى ذكراه، ودعواتكم أن يتعلم الرئيس القادم من درس «عبدالناصر» التاريخى والمستمر.