الحصاد البائس
بعد أربعين عاماً من معارك أكتوبر المجيدة يتجدد السؤال الذى ظل يتردد على مدى أربعة عقود، حول تخاذل السينما المصرية عن تقديم عمل فنى يليق بالدرس القتالى الرفيع الذى قدمه المقاتل المصرى فى تلك الحرب ضد العدو الصهيونى، هذا الدرس الذى ما زالت أصداؤه تتردد فى معاهد العلوم العسكرية حتى الآن. جاء انتصار القوات المسلحة المصرية فى معركة العبور محصلة سنوات طويلة من معاناة الهزيمة والانكسار على كل المستويات، وكان من الممكن أن تشكل هذه السنوات وما شهدته أيام المعركة من بطولات وملاحم على المستويين الشعبى والعسكرى معيناً لا ينضب، ومادة ثرية، ومنهلاً خصباً تنهل منه السينما المصرية اللاهية العابثة، التى جَفَلت من مجرد الاقتراب من تلك المنطقة، توجساً دائماً وهلعاً مقيماً وأخذاً بالأحوط، وإن بددت طاقة فنانيها فى أعمال تافهة مترخِّصة، وأهدرت مشاعر الغضب والرغبة فى الانتقام من العدو، ومن ثَم أضاعت فرصة تقديم أعمال جادة، نزيهة وأمينة. ولم ينجُ من هذا الإسفاف -قبل حرب أكتوبر- سوى فيلمى «جماعة السينما الجديدة» «أغنية على الممر» لعلى عبدالخالق، و«الظلال فى الجانب الآخر » للفلسطينى غالب شعث، مع فيلم شاهين «العصفور» الذى حاول مع «الظلال» تلمس أسباب ما حدث فى يونيو ١٩٦٧، بينما يتعرض «أغنية على الممر» لبطولة مجموعة من المقاتلين أثناء المعارك وإصرارهم على الذود عن الأرض والدفاع عنها حتى الموت.
تصور البعض -بحسن نية- أن غبار المعارك ودم الشهداء سوف ينعكس فى أعمال تعبر عن لحظات المجد والشرف والكبرياء، وأن السينما سوف تتخلى ولو لمرة واحدة فى تاريخها عن ابتذال وتشويه كل ما هو عظيم ونبيل فى حياتنا، لكن سرعان ما خذلهم تجار السينما، وعادوا إلى عاداتهم القديمة، واستثمروا الحدث الجلل فى تحقيق مكاسب شخصية صغيرة، فظهرت فى الذكرى الأولى للحرب عام ١٩٧٤ عدة أفلام بشكل مفاجئ، وتصدرت واجهات دور العرض أفلام «الوفاء العظيم» لحلمى رفلة، و«بدور» لنادر جلال، و«الرصاصة لا تزال فى جيبى» لحسام الدين مصطفى، تزيِّف الواقع وتمتهن المناسبة وتسقط فى هوًَّة الابتذال السياسى والفنى، فقد كان شعار المرحلة عند هؤلاء التجار والسماسرة إضافة بعض المشاهد واللقطات عن الحرب إلى السيناريوهات الجاهزة استثماراً وانتهازية، وهو ما فعله حلمى رفلة فى سيناريو فيصل ندا فى «الوفاء»، ونادر جلال فى السيناريو الذى كتبه بنفسه لفيلم «بدور»؛ فحدوتة الفيلمين فى أصلها لا علاقة لها بحرب أكتوبر، أو بأى حرب أخرى، فالحرب تستعمل هنا كمصادفة ميلودرامية شأنها شأن أى حادث عارض يمكن أن يصيب شخصيات الفيلم، لذا يشحب «أكتوبر» الرمز والمعنى تماماً فى الفيلمين اللذين يعانيان من الفجاجة واللجاجة والسذاجة، التى يحاول أشرف فهمى فى «حتى آخر العمر» تحاشيها بأن يجعل بطله طياراً أقعدته إصابته فى المعركة عن الحركة وأفقدته قدرته الجنسية، مبتزاً ومثيراً لشفقة وعواطف المشاهد، بينما تتعرض زوجته لمحاولة اغتصاب فاشلة من صديقه العابث، لتظل وفية لزوجها حتى آخر العمر بعد أن تناسى الجميع أمر الحرب!
فى «الرصاصة لا تزال فى جيبى» أفرغ الثلاثى إحسان عبدالقدوس، كاتباً للقصة، ورمسيس نجيب منتجاً وكاتباً للسيناريو، وحسام الدين مصطفى مخرجاً - شحنة هائلة من الكراهية والتشفى فى عصر «عبدالناصر»، وكرسوا زمن الفيلم للتهجم على التجربة الناصرية والتركيز على سلبياتها، وكادوا ينسبون إلى «عبدالناصر» أسباب هزيمة «عرابى» عام ١٨٨٢! ورغم التمادى فى إدانة العهد البائد فإن الفيلم -بمعاركه التى لم نرَ فيها العدو الذى نحاربه- لم يقترب من الصراع العربى الإسرائيلى، أو من أسباب هذه الحرب ودوافعها!
نجح المخرج محمد راضى فى «أبناء الصمت»، عن رواية وسيناريو مجيد طوبيا، أن يؤكد أن نصر أكتوبر لم يأتِ من فراغ، ويقدم لنا أبناء الصمت، أبناء القرية المصرية الذين شاركوا فى حرب الاستنزاف واستشهد بعضهم فيها بشرف وبسالة، متلمساً أسباب هزيمة ٦٧، ويرجعها إلى حالة التفسخ والانتهازية والعزلة عن جو المعركة التى تعانى منها القاهرة، مقابل الروح الرائعة والمعنويات المرتفعة للمقاتلين على الجبهة. وبينما يعد «أبناء الصمت» أحد أفضل الأفلام التى تناولت الحرب الرابعة -حرب الاستنزاف- فإن محمد راضى يعود فى عام ١٩٧٨ مع فيلم ركيك عن قصة ليوسف السباعى بعنوان «العمر لحظة»، الذى أسدل الستار لفترة طويلة على سينما أكتوبر، خاصة بعد أن وقع «السادات» ما سمى بمعاهدة السلام التى جعلت أهل السينما يتحاشون الاقتراب منها تماماً، بعد أن استشعر الجادون منهم أن ثمار النصر قد دانت للعدو، والغريب أن «السادات»، المعروف بولعه بالتمجيد والتخليد لم يتحمس لإنتاج فيلم عن حرب أكتوبر، ربما لأن فيلماً منصفاً عنها لن يكون دوره -به- رئيسياً ومحورياً، وستنعقد البطولة لأصحابها من المقاتلين الأحياء والشهداء، وربما هو نفس السبب الذى حدا بحسنى مبارك إلى عدم الحماس لإنتاج مثل هذا النوع من الأفلام، بل وجعله يوقف عرض فيلم «حائط البطولات» الذى أنتجه عادل حسنى، لأن السيناريو يتناول الدور الفعال لقوات الدفاع الجوى أثناء الحرب دون التركيز على الضربة الجوية (!)، وما زال الفيلم فى العلب حتى الآن.
من دون شك، إننا فى حاجة إلى عمل سينمائى كبير يعيد إلى هذه الحرب وجهها الناصع والمشرق، ويكشف عن بطولات رجالها ومقاتليها، ولعل القيادة العسكرية، حالياً، ومعظمها لم يشارك فى تلك الأيام المجيدة، أن تتحمس لإنتاج أعمال تخلد، دون حساسية، تلك البطولات، متجاوزة الحصاد البائس لسينما التجار والسماسرة.